بثقة اقول ان المرحوم الشيخ جلال الحنفي مؤسسة نقدية لمطربي المقام العراقي منذ العشرينيات والى رحيله في ٥/٣/٢٠٠٦ . فقد توثقت علاقتي بالحنفي منذ السبعينيات واقتربت منه كثيرا وحاججته مرارا وتكرارا لكنه لا يلين ولا يستكين
فالمقام العراقي عنده خط احمر للمتطفلين عليه او الذين يتخذون منه مجالا للرزق والتكسب والتقرب من جاه السلطة. وهو، أي المقام، تحفة فنية لا تأتيها الا الرموز الكبيرة مثل رشيد القندرچي ومحمد القبانچي وحسن خيوكة وعباس كمبير وطاهر توفيق وعلي مردان واسماعيل الفحام. والحنفي رحمه الله يراقب القراء من خلال ضبطهم للنغم لا للنص، وكان يفضل المطرب الذي يحترم القطع والاوصال، ويرفض بقسوة من يحاول الاختصار او التملص السريع من بنية الترتيب النغمي للمقام الواحد كما فعل ناظم الغزالي والاجيال المتأثرة به او الاجيال التي تأثرت بيوسف عمر وامتطت حناجرها المقام للارتزاق. وكان الحنفي ايضا لا يكترث بغناء البستة ويعدها من طبيعة غناء النسوة لما فيها من تمتع وتغنج وتخنث. همه الاول والاخير اداء المقام كما استلمناه من القدامى
وفي بحر الثلاثينيات اصدر جريدة الفتح وجعلها منبراً نقدياً لاذعاً ولادغاً لاجتهادات مطربي المقام العراقي وخاصة شيخ المقامات العراقية محمد القبانچي الذي اجتهد في ابتكار مقامات جديدة ولحن عشرات البستات وغنى المقام واقفا واهتم بالنص والنغم على حد سواء لنقل المقام من النخبة القليلة الى عموم الشعب العراقي. كان الحنفي على نقيض من هذا التصرف وكتب نقودا مؤذية عن القبانچي ودعاه الى العودة الى التقليدية المقامية الا ان القبانچي مضى في طريقه بشجاعة الفارس الذي رسم طريقه وهدفه فاستسلم الحنفي على مضض لمنهج القبانچي بعد ان اجتاحت الساحة المقامية اصوات هشة في سنوات الخمسينيات والستينيات والسعبينيات
لقد كان للحنفي مواقف مماثلة مع قراء الاداءات الدينية الذين لا يجيدون معرفة اسرار الانغام المقامية. ولم ينج احد من لسانه ونقداته المرة خاصة الشباب منهم. وحاولت عدة مرات ان اشجعه لتمييز مطرب مقام او مؤدي قرآن كريم من الشباب فامتنع قائلا: (المقام تراث الوطن وقيمته لا تقل شأنا عن قيمة اي صرح تاريخي وتراثي. والصبايا لا يفهمون هذه القيمة وهم تجار فاشلون
كان صارما في ارائه وجريئا في قولها. لذلك تحاشى الكثيرون من اهل المقام الاقتراب منه او الاستئناس برأيه. وهو موسوعة مقامية تحمل الكثير من العلم والثقافة والنقد. مرة سألت القبانچي عن رأيه بجلال الحنفي فقال: (قلعة العلم، وبصيرة مقامية لا يطالها احد). كان هذا التعبير الافصح لمكانة الحنفي في شؤون المقام العراقي
في عام ١٩٨٨ تأسس بيت المقام العراقي الذي لم شمل اهل المقام العراقي تحت خيمة رسمية ولأول مرة في تاريخ العراق المعاصر، وشكلت لجنة استشارية لنشاط البيت ضمت نخبة من المثقفين في حقول المقام العراقي هم الشيخ جلال الحنفي، د.عبدالله المشهداني، عبدالوهاب . الشيخلي، حسين قدوري، روحي خماش، عباس جميل، غانم حداد، سالم حسين، د.نوري حمودي القيسي. واشرفت هذه الهيئة على المنابر الثقافية للمقام العراقي وعلى المهرجانات والمسابقات المقامية في قاعة الرباط وقاعة الشعب والمتحف البغدادي وحققت انجازات رائعة. لكن آراء جلال الحنفي في المقام العراقي ظلت على عهدها ورفضها لاي مجتهد وكان يدعو الى تسييد النغم المقامي في الحناجر الشبابية وينتقد اسلوب عرض المقامات الفرعية في التلفزيون والاذاعة. وطالبنا بتقديم المقامات الطويلة والمعقدة مثل (الابراهيمي، المنصوري، الرست، الحجاز ديوان
في اعمدته الصحفية العديدة نال المقام العراقي نصيبا وافرا منها على شكل مسامير او نقدات تلطيفية. فالمقام عنده هاجس اصيل يقلقه ليلا ونهارا ويحضر مؤتمراته ويدلو بدلوه. رحم الله الشيخ جلال الحنفي الرمز البغدادي والمقامي فضلا عن ريادته في الشؤون الدينية كعالم جليل ومثقف فاضل ومؤلفاته الكثيرة ومقالاته التي ملأت الصحف منذ الثلاثينيات ولغاية السنوات المتأخرة وشغلت الناس لجرأتها وبراعة كاتبها.
عن جريدة الصباح
*
جلال الحنفي يتذكر بغداد مطلع القرن العشرين
من باب المعظم الى المربعة، البيوت التجارية، شرائع بغداد، المطبخ البغدادي
كتاب (بغداد) للشيخ الحنفي
ادركت بغداد واستوعبت طراز الحياة فيها على مستوى شعبي، ولم تكن على عهدنا ذاك إلا مدينة صغيرة تبدأ بباب المعظم وتنتهي بالمربعة - طولا - ومن نهر دجلة الى ما يقرب شيئا غير كثير من مقابر الشيخ عمر السهروردي - عرضا - والمراد بهذا التحديد هو صوب الرصافة، اما صوب الكرخ فكان اصغر من ذلك ويربط بين الرصافة والكرخ جسر واحد من خشب يعتمد في ذلك على جساريات اشبه شيء بالقوارب الكبيرة وسيرد الكلام على ذلك غير مرة. وأدركت من ابوابها باب المعظم وقد هدم في العشرينيات والباب الوسطاني -وما زال قائما - والباب الشرقي وقد هدم بعد ذلك.
وكان في بغداد شارع واحد هو جادة خليل باشا التي لم يكن قد مر على شقها سوى وقت قصير، لذا كانت ارصفتها ظاهرة عليها آثار التهديم ولم يدب دبيب العمران إلا في انحاء قليلة منها، ثم اطلق على هذه الجادة اسم شارع الرشيد.واتذكر اني كنت اخرج من هناك احيانا من اجل الحصول على شيء من التراب الاحمر النقي لاقوم بعجنه وصنع بعض التماثيل منه اذ كان مطلوبا منا ذلك في درس (اعمال اليد) وانا في الرابع الابتدائي.
وقد اعتاد اهل بغداد ان يخرجوا الى جهة الشيخ عمر ايام العيد للتفرج والنزهة، وكانت تقام هناك مراجيح الاطفال ودواليب الهواء والفرارات، ويجتمع خلق من الناس معظمهم من الاطفال من اول الصباح حتى تجنح الشمس للغروب. فان انتهت ايام العيد وهي ثلاثة للفطر واربعة للاضحى، انتهى كل ذلك الى انفضاض اذ (تفلش) المراجيح وتنقض عرى الدواليب. وكان مثل ذلك او بعضه يقع في باب المعظم وباب الشيخ وغيرهما من الاحياء الشعبية، وكان امتطاء الحمير المستأجرة من بعض حاجات الصبيان ذات الاولوية في العيد.
وادركت بغداد وهي مصيف الطيور المهاجرة وفي مقدمتها اللقالق التي كانت تتخذ اعشاشها على اعالي قباب المساجد والمآذن وبعض قباب الكنائس واجراسها وتظل ليالي الصيف تلقلق باصواتها التي الفها اهل بغداد وكانوا يستطيبونها ولا يضجرون منها. على ان الناس لم تكن تأمن هذه اللقالق التي كانت تسطو على بعض القطع من الملابس وغيرها فتنقلها الى اعشاشها التي يأوي اليها ذكران اللقالق واناثها ومعها صغارها. ولم يكن احد يؤذيها او يصطادها حتى ولو سقطت في البيوت والطرقات، مما قد يقع لها احيانا، ومن الطيور المهاجرة التي كانت كثيرة الظهور في بغداد ما يسمى (السند وهند) وهو الخطاف والسنونو اذ كانت هذه الطيور تبني اعشاشها في غرف البيوت الآهلة بالسكان ولا تخشى شيئا ولم نكن نمسها بسوء اذ كنا نسمع التحذيرات الكثيرة من الاهل بأن الذين يتعرضون لهذه الطيور بشيء من الاذى يصابون بحمى شديدة وكانت الناس تخاف الحمى وتخشاها كل خشية. وطريقة بناء العش الذي يقيم فيه هذا الطائر طريقة جميلة ونادرة في اعشاش الطيور. وفي جيل الناس اليوم انتهى عهد هجرة اللقالق الى بغداد بالمرة. وهي هجرة كانت قد لفتت انظار كثير من السياح الاجانب ممن كانوا يزورون بغداد صيفا. وقد حاك العامة اقاصيص واناشيد في الكلام على اللقالق ومخاطبتها فكان الصبيان يرددونها في بعض العابهم ومن بعض الفاظها (لگلك لگلك بواگ الصابونة من جوه الرازونة) يلفظون ذلك بلحن يحفظونه. اذ كانت اللقالق تسمى لكالك واحدها لكلك.
وادركت بغداد تمخر دجلتها البواخر التي تسمى مراكب واحدها مركب وغالب عملها النقل والتجارة وقد عرفت شريعة المصبغة بانها ميناء هذه البواخر. وما من احد في بغداد من ابناء جيل العشرينات لم يشاهد ذلك. وهذا مما زال من بغداد نهائيا. ونشأت لدى البغداديين في هذا امثال ومقولات كثيرة فيها ما هو جد وما هو هزل. فقولهم (مراكبه غرگانه) يقولونه في المغموم غما شديدا من دون ما يستوجب الاغتمام فكأنه تاجر غرقت مراكبه في البحر بما فيها من بضائع وسلع تجارية فركبه بذلك الهم العظيم. ومن اغانيهم الهزلية التي شاعت ايامذاك على عهد التسجيل الاسطواني اغنية (مركب فجل سويت وچروخة شلغم).
ومن هنا تكدست البيوتات التجارية في شارع النهر كبيت الشابندر وبيت الخضيري والبيت التجاري الانكليزي المسمى ستيفن لنج كما ان القنصلية البريطانية كانت في هذا الشارع حتى اوائل القرن العشرين اذ اتخذت مقرها بعد ذلك في السنك ولم يكن ثمة جسر في هذه الجهة بل كانت مكانه سكاليل تباع فيها الاحطاب والمواد الخشبية المستعملة في البناء. ولقد كنا نرى سكاليل الحطب كثيرة في البلد منها ما كان في محلة السور وفي محلة الحاج فتحي وفي شارع النهر وغيرها.
لقد الف المطبخ البغدادي استعمال الحطب في الطبخ وما من رجل كان صبيا في تلك الايام ولا امراة إلا نفخت النار تحت قدر الطعام لاسيما ان كان الحطب طريا. ومن هنا جاء قول القائلة: (نفخت وطبخت) وفي الامثال البغدادية (خلص النهار بنفخ النار) اي انتهى النهار بهذا الجهد الثقيل المتعب.
وقالوا في بعض امثالهم: (دخانك عماني وطبيخك ماجاني) يقال في الجار لا يكرم جاره ببعض طعامه . وربما تأثر الطعام المطبوخ بدخان الحطب فظهر ذلك في مذاقه فيقال فيه (مدخن). ونحن ادركنا هذا وعشناه وعايشناه. وكنا نرى باعة الحطب يحملون على ظهورهم حزما منه ينادون عليها في الطريق، ومن اغلى انواعها (البرماجة) وعرفنا انواعا من حطب الطبخ احسنها الطرفة. وربما اشترى الفقراء العاكول الاخضر فطبخوا به طبيخهم فاكثروا النفخ فيه. والاستعانة بالاطفال على هذا كانت مالوفة. والموقد الذي رايناه ايام طفولتنا هو الموقد العربي القديم باثافيه الثلاث.
ورأينا بعض التطور في ادوات الطبخ والاته اواخر العشرينات اذ ظهرت البريمزات – جمع بريمز – التي تعمل بالنفط وشاهدنا مطابخ نفطية تعمل بالفتائل الثلاث بعضها بفتيلتين ولم تظهر المواقد النفطية المكتملة التطور إلا بعد حين طويل. وكان الفحم وهو انواع منه (فحم كراجي) ويستحسن الناس استعماله في اعداد الشاي بالسماورات والمناقل. ويستعمل ايضا للاوتيات، جمع اوتي، اي المكواة التي تسوى بها الملابس المغسولة ويستعمل في النواركيل كذلك وقالوا في المفلس: (مضروب جيبه اوتي) ومن انواع الفحم فحم الشوك ويستعمله جماعة الچايچية في الغالب
وشاهدنا بغداد والناس تشرب ماءها من الحباب التي تملأ من قبل السقاقي الذين كانت لهم في بغداد احياء تلم شملهم احيانا. وللعامة في السقاقي – جمع سقا وعمله انه يساقي امثال عديدة منها في صفة المكدود الضيق الرزق: مثل (السقا من يطلع من المي تيبس ذياله) وفيها (گالوا له للسقا چب صار جيرة ولزگ بالحب) اي ان السقا اذا طلب منه عدد من القرب زاد على ذلك ليصيب من اثمان قربه ما يعيش به، ولكن المثل يضرب في اللجاجة
ادركت بغداد واهلها يشربون من حباب الماء، وكنا اذ نشرب الماء منها نرى (العلگ) – العلق – يسبح فيه فننحيه ما استطعنا ثم نشرب الماء – وانما ننحي ما كبر منه وظهر للعين المجردة اذ كان السقاء يملا الحباب هذه بماء يغترفه من ساحل النهر، وهو وغيره وبعض الدواب تخوض فيه بالاقدام الى جوار من يسبح من الناس ومن يغسل في النهر ما يغسل من اشياء. واذا اخلص السقاء واراد ان يحسن الخدمة ويرضي مستأجريه في اداء المهمة اوغل في النهر فاستقى من مواقع بعيدة عن الشاطيء.
وكانت في بغداد شرائع تنفذ منها بغداد الى دجلة منها شريعة المجيدية – مدينة الطب – والميدان و النواب (في شارع المستنصر) والمربعة. وكانت للقرب سوق للحاجة اليها في اكثر من امر فانها كان يقوم عليها بناء الاكلاك – جمع كلك واسطة نهرية انتفت الحاجة اليها منذ حين - . كما كانت القرب تتخذ اوعية لنقل المياه الثقيلة واقذار البلاليع – البالوعات – وخنس المرافق ويقال لهذه القرب (صلوخ) – واحدها صلخ – ويستفاد من هذه المياه احيانا في تسميد المزروعات لاسيما الخس.
وكان بعض السقائين يرشون الاسواق وبعض الساحات امام المقاهي وغيرها لقاء ما ينفحهم به اصحاب هذه المقاهي وغيرهم من نقود مياومة او في اوقات متفق عليها. كما كان بعض السقائين يبيعون الماء البارد بقربهم ومعهم طوس معدنية وربما وزعوا الماء بالمجان (السبيل) اي ان يتبرع بعض محبي الخير بثمن ما في القربة من ماء لتشربه السابلة.
ولقد ادركت الثلج ينادي عليه باعته ويكثر ظهورهم بعد العصر – بقولهم: (الليلة وغرة يا ثلج) والوغرة شدة الحر في الفصيح. وكان الثلج يباع بالميزان، ويكون لدى باعته التبن يعطون منه لمشتريه شيئا يضعه تحت الثلج فيحمله فلا تتعرض يده للتثليج والبرد الشديد لا سيما ان كان من الصبيان. وكان اهل بغداد يعنون بتبريد الماء من الليل في مشاربه من قلل وغيرها على السطوح وتيغها ويسمون ذلك عند الصباح "مي بيوتي" . ومن مزايا نساء البيت اعداد الماء البارد وتدبيره دون الاحتياج للثلج. ومن هنا قالوا (بتشرين يتساوى مي النادرة والجايفة) لان اثر الجو ظاهر في هذا الموسم على الماء وغيره.
وادركت الناس تتعاطى من الاشربة الباردة – مما يسمى اليوم بالمرطبات – شربت الزبيب الذي كان ينادي عليه باعته بلفظ (شربت زبيب واليندب الله ما يخيب) غير ان في الناس من كان يتخذ من هذا الشربت مادة غذائية يفطر عليها في الصباح ولا اعلم في الاشربة ما يغالب هذا الشربت في نكهته وطيب مذاقه. ومثل ذلك شربت التمر هند والبلنكو.
اما الشنينة وهي اللبن يكون فيه الماء الكثير مع الثلج فكان من خيرة اشربتهم في الصيف ولا سيما ساعة الافطار في رمضاناته. على انه كانت لهم ملاعق خاصة بذلك تصنع من الخشب المنقور او النحاس لها هيئة لا تشبه سائر الملاعق. وكان باعة اللبن يضعونه في الانجانات فان زاد نشفوه في اكياس من الخام الابيض ليمكث قيد الانتفاع الزمن الطويل فاذا ارادوا استعماله اخرجوا منه مايكفي ومردوه مع الماء وقالوا في اللبن المنشف: (ما يعرفك يالبن غير اليمردك). كان لعلب اللبن المتنوعة الاحجام (گشوة) يفطر عليها كثير من الناس ولا الذ منها شيء من نحو گيمر وما اليه ولكن الگشوة لا وجود لها اليوم.
اما النامليت و السودة فقد ادركت ظهورهما في قنان كان فتحهما من الصعوبة اذ كانت تسد بكرة زجاجية – دعبلة – سدا محكما فاذا اريد تنحية الدعبلة هذه عن مكانها وكانت تكمن في تجويف لها خاص داخل القنينة فانهم يضعون ابهام اليد اليسرى على الدعبلة ويضربون الابهام بجمع الكف فتنزاح الكرة الزجاجية عن مكانها فيتهيأ افراغ ما في القنينة من الاشربة الغازية المحلاة بشيء من السكر وتكون مبردة في العادة. اما السودة فلا سكر فيها. ولم يعرف اهل بغداد شراب البرتقال وغيره إلا بعد حين طويل. ولكن كانت هناك اشربة مصنوعة من الصبغ والسكر توضع في اوعية يحملها الباعة معهم كانت تلفت نظر الصبيان اذ يستخرج منها الشربت بانبوبة يكبسها البائع بأصبعه فان رفع اصبعه عنها تساكب منها ما يراد افراغه في الطوس او الكؤوس.
ولم تكن (الدوندرمة) إلا من بعض ما يرغب فيه الاطفال والشباب ولم تكن هناك حوانيت لصنعها وبيعها، بل كان باعتها يتجولون بها في الطرقات ينادون عليها بلفظ (قيما غلي). وهناك من يتخذ له مكانا في السوق يبيع به هذه المادة التي كنا نغرم بها ونحن صغار. وقد كنت اشتريت قوطية مما يصنعه التنكچية – السمكرية – لصنع الدوندرمة فكنت اتفنن في صنعها من شتى الانواع والمواد والاصباغ. ولا وجود لهذه القواطي في الوقت الحاضر ولم يعد للهو والتشاغل بها من مجال بعد ان كثرت في عالم المرطبات انماطها الكثيرة وغلبت الناس على اوقاتهم امور اخرى غيرها.
ادركت بغداد ومطبخها لا يعرف من انواع الدهن سوى الدهن الحر الذي هو الزبد منتزعا منه اللبن ويباع مجلوبا الى بغداد بالعكك فيضعه اهل البيوت في الخمام والبساتيك. وكان في الناس من يشتري الزبد ثم يعالجه باستخلاص الدهن منه فيستعمله في الطبخ. وادركت بغداد اذا طبخ التمن اي الرز في مطابخها طبخ على حالتين اولاهما ويقال لها (التطبيگ) وذلك بخلط الماء والدهن المدوغ في اسفل القدر فاذا غلي الماء وضع فيه التمن المغسول من قبل فترة حتى يتم نضجه، فاذا اوشك ان يتم له ذلك خففوا من ناره كي يتهدر اي يتهدى اي يأخذ سبيله الى النضج على نار هادئة، وفي مثل للبغداديات (التمن المهدى للسلاطين يتودى) اي الرز الذي يكون مجود الطبخ يصلح ان يهدى للملوك والسلاطين وذلك لتميزه بالنفاسة واللذة وحسن النضج. والطريقة الاخرى وهي المفضلة في طبخ التمن وقد انقرضت هي ان يطبخ بالماء فاذا تم له النضج فرقعوا عليه الدهن الحر بالطاوة اي اذابوا الدهن على النار اذابة تامة ثم سكبوه على وجه التمن في القدر فيبدو لمرأى التمن وقد رش عليه الدهن، المفرگع ما يثير شهية المشتهي. وكلمة (فرگع) اتية من صوت فرقعته عند سكبه على التمن اذ يكون ذلك بصوت مسموع مصحوب بالفرقعة. ولا يصب او يفرغ من هذا التمن من قدره هذه شيء إلا لصاحب البيت او الضيف المقرب. ومن هنا قالوا: (يأكل من رأس الجدر) للمحظوظ الذي تتجه العناية اليه دون سواه فيأكل الذ المطبوخات قبل الاخرين. ومن عادتهم بعد افراغ الدهن الذي في الطاوة على التمن في قدره ان يأخذوا بالچفچير شيئا من التمن المطبوخ فيضعوه في الطاوة ليصيب من بقايا الدهن فيها وهذا يقدمونه لاعزاء صبيانهم، او تأكله الطابخة متلذذة بما تم على يدها من طبخ الرز الذي كان اهل بغداد يغالون في امره ويجعلون وجوده على المائدة من بعض معالم الخير في بيوتهم. فاذا لم يكن ثمة دهن كاف للرز وصفوه بانه (تمن كفار) باسكان الكاف – واصل اللفظ من القفار في الفصيح بمعنى مقارب. وقد زال دور الطاوة في هذه المهمة من المطبخ البغدادي منذ عقود.
وادركت يهود بغداد لا يستعملون سوى الشيرج في التمن فكنا لا نرتاح لرائحته وهو يفرقع في الطاوة ثم علمنا ان هذه الطريقة هي طريقة للبغداديين القدامى من عهد بعيد، وقد اكدت ذلك كتب الطبيخ القديمة، وحين عشنا في الصين كان غالب ما نستعمله من الدهن دهن السمسم الذي هو الشيرج عينه. لم تكن بغداد تعرف بعد الدهن الحر إلا الدهن المتخذ من اللية المسلية وكانت في بغداد بيوت تصنع هذا وتبيعه.
وكان اهل بغداد اذا طبخوا الدولمة فلعلهم يستعملون في طبخها احيانا (دهن الزيت) اي زيت الزيتون، فترى لها به على لهوات الاكلين لذة ظاهرة وهي بهذه الطريقة اكلة مترفة. وادركت اهل بغداد يطبخون السمك بالمرق ويلاحظون صبيانهم عند اكله ويسمونه المطبگ.
ورأيتهم يطبخون الشجر – القرع – باكثر من طريقة منها ان يطبخوه بالكركم وبعد ذلك يرشون عليه مسحوق الفلفل الاسود، وهي اكلة في غاية اللذة رايت القدر البغدادي الحديث قد اقلع عنها. وكانت الكفتة المدورة بحجم الجوزة الصغيرة يطبخونها في قدر ملأى بالمرق مع معجون الطماطة والكرفس من الاكلات البغدادية الشهية ويسمونها احيانا (آية كفته سي) اي الكفتة المكورة بامرارها على راحة اليد.
ومن المآكل البغدادية الكبة بانواعها وفي مقدمتها (كبة الحامض شلغم) ومنها ما يسمى بكبة حلب ولا علم لاهل حلب بمثلها، غير ان هذه الكبة تصنع لافطار الصائمين في رمضان ولم تكن تعرف في غيره وكانت تحشى باللوز المقشر والكشمش وتغمس في صفار البيض عند المباشرة بعملية القلي فتكون عليها قشرة ترق من جانب وتثخن من جانب والكبة هذه من الحجم بحيث لا تكاد تكون منها سوى لقمتين يقضمهما الآكل بلذة لا تعدلها لذة.
ومن المآكل البغدادية اكلة البراصة التي تطبخ من البصل الاخضر يقطع بطول يقرب من (الفتر) ويبدأ اولا بقليه ثم وضع المرق عليه فتسرط لقمه سرطا إذ لا يدركها المضغ لسرعة انزلاقها في بلعوم الآكل. ويكون مع البراصة الرز المطبوخ فهي به امرى واشهى.
ومن المآكل البغدادية التي ادركناها المحشيات التي تصنع من لب الخس أو الخيار او البيتنجان وغيرها تقلى قليا تاما ثم تحشى باللحم المثروم ويكون معها المرق بمعجون الطماطة بمقدار.
وكان للبورك المقلي بالدهن يغرق فيه تغريقا، اكثر من نوع، وما نراه في المطابخ البغدادية الحديثة من انماط البورك يبتعد عما الفناه في مطابخها قبل اليوم، ولعل السبب في هذا يرجع الى ان البغداديين القدامى كانوا يرون كل اللذة في المطبوخات الدهينة المبالغ فيها وفي امثالهم (فلوسك بالدهن ولحمك بلاش) وكانت الخبازة اذا اخرجت رغيف الخبز حارا من التنور بادر بعض القوم فوضع على الرغيف شيئا من الدهن الحر الخالص ودافه بقدر من السكر الناعم وراح يلتهمه بشراهة لا تجد في مواجهتها ما يدعو الى الانكار والاستغراب ويسمى ذلك بالمريس.
اما انواع الشوربة والحساء فانها كانت كثيرة اشهرها شوربة الهرطمان وغالبا ما كانت تعد لاكلات الصباح ايام الشتاء ومنها شوربة الماش وتكون بقشره او مصفاة منه. وشوربة العدس وهي اكثر ظهورا في قدورهم ومما كان سائدا في المطبخ البغدادي الشعبي شوربة الچشچ يكون متحجرا شديد الحموضة اذ اصله عجين مخلوط باللبن يجففونه ويدخرونه ويضعون معه عند الطبخ شيئ قليلا من الرز، وبعد النضج يسكبون عليه الدهن المدوغ، ومن انواع الشوربة شوربة الشعرية وغالبا ما تصنع للمرضى والناقهين.
وكان لصنع المحلبي في المطبخ البغدادي طريقة غير الطريقة المعروفة اليوم باستعمال انواع من النشا. فان النساء كن يغسلن مقدارا من التمن ويتركنه ليجف قليلا بعد ابعاد الماء عنه فاذا بلغ درجة الجفاف المطلوبة دقوه بالهاون دقا وصنعوا منه الدقيق. وبهذا الدقيق نفسه يطبخون المحلبي فاذا القوا على الحليب وهو يخاط داخل القدر خوطا بمهارة ودقة شيئا من ماء الورد والهيل بات المحلبي من الذ مآكل المائدة، وعادتهم ان يفرغوه في الصحون غير العميقة وهو ساخن ثم يتركوه ليبرد على الهواء فيتم لهم بذلك التوفيق التام.
ورايت البغداديين يرجحون في صنع المحلبي حليب الجاموس لما فيه من دسم على حليب البقر. وبديهي ان المحلبي يكون ذا حلاوة ظاهرة وكان بعض اهل بغداد يحلونه بسكر القند مبالغة في تجويد طبخه، وهي طريقة يجهلها المطبخ البغدادي اليوم. ويمتاز المطبخ البغدادي باجادة صنع الحلوى البغدادية التي لا تضاهيها إلا الحلاوة المسكتية.
وكنا نأكل من مطبوخات المطبخ البغدادي مما لم يعد له وجود اليوم نوعا من شجر الاسكلة ويكون طبخه مصحوبا بشيء من السكر وهو من المآكل البغدادية القديمة وكان يهود بغداد يغرمون به اشد الغرام. ويمكن شراء القطعة منه دون الزام المشتري بشراء القرعة الواحدة كلها.
*
أدركت من هذا القرن ما يزيد على ثمانية عقود، فأنا الآن متذكر من هذه العقود أوائل أيامها وسوابق أحداثها وملامح التطور فيها، وأنا متذكر كذلك ما تلا ذلك، ولبثت أتابع حياة البغداديين متابعة دقيقة حتى تفقهت فقه أدبهم ومن ذلك أمثالهم ونكاتهم وأغانيهم مما يدخل في إطار لغتهم ومصطلحاتهم وتابعت ما استطعت صناعاتهم وحرفهم وسننهم الاجتماعية وأعرافهم البيئية وقد كان مما دفعني إلى ذلك أن العهد الذي نشأ فيه كان من خصائصه نشاط مثل هذه الدراسات إذا كان في مقدمة من ظهر في الساحةيومذاك العلامة الاب انستاس ماري الكرملي وكنت قد اتصلت به وانا ما ازال طالباً في الصف الخامس الابتدائي وواصلت التردد عليه في دير اللاتين ببغداد وآخرون من رجال الصحافة الذين وجدناهم على جانب كبير من الحرص على هذا النمط من التدوين الشعبي الشامل. ولقد كان من رأيي كثرة التجوال في احياء بغداد والتوقف عند كل (لمة) تؤدي عملها اليومي ومن ذلك مثلا جماعة (الكندكارية) الذين لم يعد لهم وجود في الطرف الأخير من القرن
كنت انظر بطول تأمل في اناس يحفرون بالوعة في الطريق او يبنون جداراً او يحمسون الحميس او يطفئون حريقا او ينسجون حصيرا او يحركون قماشا او يروفون ثوبا. وألاحق بنظراتي وأنا يومذاك صبي الحلاق والنجار والحداد وبائع الكباب والطرشجي وبائع البالوتة والعاب الصبيان والشباب والبنائين (اللمبجية) الذين يضيئون الفوانيس في الأزقة، وكان مشهدهم مشهدا يدل على مهارة وجدية واستباق مع الزمن. لقد عرفت كثيراً من أحوال الناس في أيام أفراحهم وأيام أحزانهم. وترددت على المحاكم فكنت أشبه ببعض المحاكمات وشاهدت (القصة خون) الذي يسرد سيرة عنتر بن شداد العبسي في بعض المقاهي في محلة الفضل ورأيت صراع الدبكة وشاهدت الدلالين يعلنون بيع البيوت وإيجاراتها في المقاهي. ولاحظت وسائط النقل البرية والنهرية حتى أني ركبت في احد الأيام (الكاري) الذي كان واسطة نقل مألوفة بين الكاظمية وبغداد في جهة الكرخ ولم اكن اريد بذلك الوصول الى مكان ما ولكن لمجرد أن أرى مذاق مثل هذه الوسائط وما تحدثه في النفوس من نشوة. وشاهدت (الزور خانات) ومصارعة الهلوانية بل أني اشتركت في زور خانة (مهدي زنو) رحمه الله في الدهانة. وصليت في معظم مساجد بغداد واخترقت معظم الأسواق ومنها سوق القاطرخانة وسوق الغزل وسوق الهرج وسوق الصفافير وسوق حنون، وكنت اتبع السبايات التي كانت تمر في بغداد، وأدركت بعض حالات السفور في اول بروزه في البلد
وإذا لم أجاوز الخامسة عشرة من سني حياتي التحقت بمجلة (الهداية الاسلامية) ومن بعض أعمالي فيها قيامي بجباية (الاشتراكات) في أماكن متقاربة ومتباعدة وعرفت الكثير من أمر الناس وطبائع السكان، وتعرفت منذ الصغر على اكبر مجموعة من علماء الدين وأئمة المساجد كل ذلك جعل ذاكرتي تزدحم بالمعلومات البغدادية الجمة الكثيرة. وإذا كان التطور الذي حصل في بغداد سريعا غير بطيء فقد اختزن كثير من ذلك في ذاكرتي وبت استطيع الآن الرجوع إلى ما قبل ثمانين سنة لأرى كيف كانت الأشياء والأوضاع والتقاليد والمشاهد، بعد هذه المقدمة الموجزة اذكر أن أول اختراع لفت أنظار الناس في بغداد في العشرينيات هو (الفونوغراف) الذي عربه اللغويون الى (الحاكي) وكانت الناس تستمع إليه في المقاهي وفيهم من امتلك مثل هذه الاجهزة في بيوتهم اذ كانت توضع الاسطوانة على مكان مخصص لها في هذا الجهاز وتوضع عليه الإبرة التي يسمونها (الالكنة) وهناك بوق ينبعث منه الصوت
وقد ساعد الحاكي هذا على نشر المقامات العراقية في مختلف الاوساط وانما كان يسمى بالاسطوانة لم يكن الا قرصا مستديراً بحجم الرغيف الصغير وجرت تسميته بالاسطوانة لأنه كان عند اول اختراعه اسطواني الشكل. لدي هذا الجهاز القديم ومعه عدة اسطوانات تصنع من الشمع وتسجل عليها الأغاني وغيرها محليا فلما تطور هذا الجهاز صارت الاسطوانة قرصا يصنع من مادة خاصة وانتقل اسم الاسطوانة إلى القرص ومضى الأمر على ذلك
لقد كان أهل بغداد يجتمعون حول الحاكي وهم يتعجبون كيف يخرج هذا الصندوق الصغير اصواتا لأناس كثيرين وكان بعضهم يدور حول الصندوق ليرى ماذا بداخله، وفي تلك الايام نظم بعض الشعراء قصائد في وصف هذه الأعجوبة النادرة ثم مضت الأيام فإذا بالراديو يظهر في بعض البيوت فتستمع الناس إلى أصوات ينطق بها الناطق في مصر ويسمعها السامع في بغداد وكنت في أواخر العشرينيات امشي مع صديق فمررنا ونحن في محلة دكان شناوة ببيت فقال لي انظر إلى هذا الشباك فان فيه سلكا ظاهرا على الطريق يجلب الاخبار من مصر فكذبته وأسكته إذا كان ما قاله مما لا تصدقه العقول يومذاك، وكان عبد العزيز البغدادي وهو صاحب محل للسجائر يمنح جوائز لمن ينجح في سباقات كان ينظمها فكان يقدم له هدية واحدا من هذه الراديوات وذاك قبل انتشارها في الأسواق، ثم ظهر الراديو في بعض المقاهي، وقالت العامة في بغداد أن هذا من عمل الشيطان فلما سمعنا القرآن الكريم يتلى من اذاعة مصر عدلت الناس عن نسبة الأمر إلى الشيطان وانتشرت الراديوات في البلد وقل انصراف الناس إلى الفونوغراف وبعد مرور عدة عقود من الزمن ظهر التلفزيون الذي كان يعمل على شاشة غير ملونة وإنما كانت المشاهد فيها تبرز بيضاء وسوداء ثم تطور الأمر وظهرت التلفزيونات الملونة على نحو ما يسعنا نراه ونشاهده في آخر العشرينيات
لقد ذكرنا اسم شركة عبد العزيز البغدادي لصنع السجائر اذ كانت هذه السجائر تصنع في علب صدفية تحفظ في الجيب وهو تطور ظهر في عالم التدخين اذ كان المدخنون اوائل هذا القرن يدخنون السجائر المزبنة التي فيها زبانات اي يكون للسجارة عقد مبروم من الورق وكان المدخنون يضعون سجائرهم في علب معدنية تفتح وتسد يدسونها في جيوبهم لا وجود لها اليوم وكانت السجائر تباع من قبل (التتنجية) فما من سوق في بغداد الا وفيه اكثر من (تتنجي) يبيع هذه السجائر ويبيع انواع من التتن الهندي والشيرازي وكان هناك من يستعمل (السبلان) جمع سبيل وهو ما طوره الغرب وسموه (البايب) وباعة السجائر يصفون هذه السجائر الى ما كان نمرة 2 ونمرة 3 ما يوصف بانه (كاسكين) وكانت صناعة السجائر في بغداد غالبا ما ينهض بها اناس في بيوتهم وهناك مصطلحات كثيرة جدا في هذه الساحة وهي اليوم لا وجود لها. ان عشرات الالفاظ التي كانت تستعمل في هذه الصناعة لم تعد من ألفاظ التداول اليومي في ايامنا منها كلمة (اصبع، بقجة، خردة، ملاين) وغيرها.
ومازلنا نحوم في حومة التدخين والتتن فان المناسبة تدعونا الى ان نذكر (النواركيل) وكانت منتشرة في المقاهي ولكل نركيلة توابعها ومفرداتها ومنها (المربيج) وهو انبوب لطيف الصنع يضعه المدخن في فمه يستخرج الدخان من الماء الذي في قعر الشيشة، والمجال الذي يكون الامتصاص منه يسمى (تخم) او (اومزك). وكان اصل النركيلة وسبب تسميتها بذلك انهم كانوا يصنعون من جوز الهند وعاء لها وقد شاهدته في الصغر.
ومما كان يشيع بين الناس في اوائل هذا القرن من هذه المكيفات (البرنوطي) وهو مسحوق التتن يعطرونه بالعطور ويجعلونه في علب صغيرة لطيفة مفضضة يخرج منها الرجل شيئا بين اصابع يده (السبابة والابهام) ينسه في انفه فيستنشقه ويقدمه للضيوف وكانوا يقولون ان البرنوطي يفتح افاق المخ لانه يجر الى العطاس في غالب الاحيان وكلمة البرنوطي اصلها (برن اوت) اي حشيشة الانف وقد اثبت على وصف صنع البرنوطي في كتاب الصناعات والحرف البغدادية ومن المكيفات التي تستخرج من التتن ما يسمى (السويكة) وما يسمى كذلك (تتن سنون) وهو شيء واثق المنظر يدسون منه شيئا قليلا في بطن الشفة وهذه المكيفات في اخر القرن الذي نحن فيه لم يعد لها وجود ظاهر. ان تطوير صناعة السجائر ادى الى التقليل من حدوث الحرائق اذ كان شيء من النار يقع من السجارة القديمة على غفلة فيحترق ما تقع عليه فلما صارت السجائر تصنع بالمعامل الحديثة لم يقع منها شيء يحرق الثياب وغيرها
وبعض المدخنين في تلك الايام كانوا يشترون دفترا يسمونه (بابرة) يقطعون منه الورقة ويضعون فيها التتن ويلفونها ويدخنونها وكانوا يستعملون الوسائل في اشعال النار كأنها الأصل الذي اخذت منه (القداحة) وهذه الطريقة قد تكون ما تزال موجودة في البوادي والأرياف
ان ما ذكرته من امر التدخين وشؤونه على الوضع الذي سردته فيه كان متفشيا في سائر أنحاء بغداد وليس من الامور الخاصة ببعض الناس غير ان النركيلة ما تزال موجودة في بعض المقاهي البغدادية وكذلك يرى بعض ذوي المكانة ان شخصيات البلد يستعملونها حتى اليوم
ادركنا بغداد وهي تتحرك نحو التغيير في أزقتها وأحيائها اذ كانت لهذه الأزقة والأحياء أبواب تغلق بعد صلاة العشاء فلا يدخلها داخل ولا يخرج منها خارج إلا في ليالي رمضان فأنها تبقى مفتوحة حتى الفجر، وقد شهدت هذه الأبواب في بعض مواقعها أن بغداد كانت مدينة مسورة ذات أبواب فخمة منها الباب الذي يقع في منطقة باب المعظم كما شهدت الباب الذي يقع في جهة الباب الشرقي ومكانها اليوم ساحة التحرير وما تزال هناك باب في جهة الشيخ عمر اما الباب الرابعة وهي باب الطلسم فقد أزيلت أواخر العهد العثماني إذ كانت مستودعا للبارود وقد نسف بالبارود الذي فيه خشية ان يستولي عليه المحتلون الانكليز وكانت هناك باب خامسة تقع على النهر في جهة الجسر العتيق وكانت تسمى باب الاغا وقد ازيلت من زمن بعيد، وكان لبغداد سور يحيط بها من جهاتها الاربع ومن ذلك جهة النهر. جاء على ذكر ذلك بعض السياح الاجانب والان منهم من حدد طوله بالمشي حوله ساعتين ومنهم من استعمل في قياس طوله الياردات ومنهم من استعمل الخطوات وكانت بغداد محاطة بخندق ضيق وذي عرض ظاهر شاهدت منه ما كان بين الميدان والسور والمستشفى المجيدية الذي هو في كلية الطب اليوم
كانت بغداد بدءا من مدخلها في باب المعظم كثيرة المقاهي ووجدنا منها كهوة البلدية وكهوة ابن كلك وكهوة لطيف وكهوة الوقف التي كانت عند جامع الميدان (جامع الاحمدية) ويتجمع الناس في المقاهي ليلا ونهارا وتدار عليهم اشربة متنوعة من ضمنها القهوة العربية والمقاهي التي نراها هنا لا وجود لها اليوم
ومن مواقع الترفيه في بغداد دور السينما وهذه نشأت أوائل القرن, وكان من وسائل الترفيه ما يسمى بالقرقوز الذي يقال له بالفصحى (خيال الظل) ولم ادركه، ومن اسباب الترفيه التي كانت شائعة لدى الناس ترقيص الشوادي (القردة) او يحاكيها من يقوم بهذه المهمة فيسألها كيف تنام العجوز وكيف يمشي الراعي خلف شياهه ويقول للشادي اذا اعطاك المتفرج بعض النقود فماذ تصنع فانه يمد يده على رأسه تحية وتسليما على الرجل وسأله فان لم يعطك شيئا فماذا تصنع فانه يضع يده على عجيزته ولا وجود لهؤلاء اليوم وكانت الالعاب السحرية ذات وجود مشهود.
وللمطيرجية في بغداد أجواق من الطيور تطير هنا وهناك ولأصحابها أبراج يقيمونها على سطوح البيوت والمنازل ووجود المقاهي في بغداد يرجع إلى ما قبل مئة عام إذ كانت القهوة قد عرفت في تلك الفترة وللمقاهي تخوت عالية ذات طراز خاص ويفرش عليها حصران من الخيزران تنسج محليا بالحجم المطلوب.. ويسمى جلاس المقاهي القهوة المرة واشربه أخرى من مثل شراب الورد والدارسين وتعرف استعمال الشاي في المقاهي منذ القرن الماضي اذ كان الشاي قد ظهر في وقت غير بعيد منذ اواخر القرن التاسع عشر رغم انه كان يستورده التجار في شراءه عبر محلي بالسكر على عادتهم التي لا يزال عليها أهل الصين وكان سعره غالبا جدا إذ كان أهل بغداد لا يعرفون استعمال الشاي في الصباح إنما كانوا يستعملون أنواعا من الشوربة كالهرطمان والعدس
وكان قصابو بغداد يرمون العظام للكلاب ولم يكونوا يبيعونها ولا كان احد يشتريها وأول ما رأيت ذلك في القاهرة سنة 1929 إذ كان الجزار المصري يفرض عليك قطعة من العظم يضعها في الميزان حين يبيعك اللحم الذي نشتريه منه. كان بقالو بغداد يبيعون كل شيء بالعدد إلا النومي حلو فأنهم كانوا يبيعونه بالميزان. وكان الطبخ على المواقد يستعمل فيه حطب الطراقة والبرماجة والعاكول والشوك والسعف
لم تعرف بغداد أول هذا القرن انتشار المطاعم والتي تبيع التمن والمرق وما إلى ذلك إنما كان الموجود في بغداد من المطاعم الكبابجي والباجة جي كما أن هناك من باعة العريسة يصنعونها في الصباح وعرفت بغداد باعة الحميس يجلسون على الأرض وبين أيديهم طاوة كبيرة واسعة يقلون فيها الحلافيظ والمصارين ورديء اللحوم وكان الحميس مما يرغب فيه أكلته لطيب رائحته عند قليه فاذا مر عليه الوقت الطويل صار اشبه بالجلود
ولم يكن الناس في بغداد ولا ذوو البيوت يأكلون المعلاك (الكبد والقلب والرئتين) اذ كان مما يستوجب السخرية ان ياتي الرجل اهله بمعلاك يحمله معه كما ان المعلاك لم يكن مما يبيعه القصابون انما كانوا يتركونه للزنابير والقطط. والمعلاك اليوم من المآكل الغالية المرغوب فيها وكذلك القول في الفشافيش فانها لم تكن تعرف في بغداد اول القرن. وظهرت في بغداد اوائل ايام القرن اكلة تعرف بالابيض وبيض وهو ان يجلس في السوق رجل اماه منضدة صغيرة واطئة عليها كؤوس الطرشي واوعية البيض المسلوق الذي يقطعه ويقدمه مع الخبز لأكليه الجالسين على كراسي صغيرة تكاد تكون لصق الارض. ولم تكن في بغداد اول القرن دكاكين لبيع البقلاة والزلابية انما كانت البقلاوة واخواتها تظهر الى الساحة في رمضان فقط اذ تباع على رؤوس الازقة فاذا انتهى رمضان لم تعد الناس تشاهد هذا النمط من الحلويات. والزلابية الموجودة الان ليست بغدادية وانما هي تركية اما الزلابية البغدادية فقد انقرضت من وقت بعيد وكنا ادركناها يبيعها باعة من اليهود
ومن مآكل الناس اليومية في بغداد الباﮔلة التي ينقعون فيها أرغفة الخبز لقاء قليل من النقود. وكانت باعة الباﮔلة هم من النساء يجلسن عند رؤوس الأزقة ومما اشتهرت بذلك امراة في الاعظمية اسمها (سعدة) وقد سمي الزقاق باسمها وصارت الباقلاء هذه اليوم تباع في مطاعم معروفة في بعض الاسواق وكذلك كان هناك من يقلي الكبة في الطاوات الواسعة. وكذلك من يقلي السمك في الاسواق لتأكل منه الأكلة. اما الدجاج فلم تعرفه بغداد معروضا في مطاعم خاصة هنا وهناك. وتطورت أكلة الأبيض بيض اليوم الى ما يسمى باللفات والسندويش والفلافل. وفي الصباح كان باعة الشرابت من مثل شربت الزبيب والتمر هند يبيعونها لمن يفطر عليها في الصباح وكان باعة الكبة يبيعونها في سلال خاصة ويتخذون لهم مواقف في السوق قبيل الغروب كما كان باعة الباجة الباردة يتخذون لهم مقاعد في السوق بين الغروب ليقبل عليهم من يتعشى بذلك
مطابخ البيوت كانت تتألف من ثلاثة احجار يركب عليها قدر الطعام ومن هنا جاءت تسميتهم للطبوخات بالتركيب تقول (اشركبت اليوم؟) فيرد عليك من يقول لك انهم (ركبوا البيتنجان والبامية) وغير ذلك ثم دخلت الى المطابخ ادوات تعمل بالنفط والفتائل ثم ظهرت البريمزات وهي تعمل بالضغط ثم تطورت وسائل الطبخ فصارت راقية وحسنة المنظر ثم ظهرت الطباخات التي تعمل بالغاز كما ظهرت انواع من الطباخات الكهربائية بعد ان شاع امر استخدام الكهرباء، وكانت غالب القدور من النحاس وهم بين حين وآخر يذهبون بها الى من يسمى مبيض الجدور ليبيضهن بالقصدير ثم شاعت قدور الفافون التي لا تحتاج التبييض. وكانت القدور النحاسية اذا اهمل تبيضها تسبب التسمم الذي وقع غير مرة. وكانت للناس في مطابخهم قدور ذوات اشكال وتسميات منها الجدر العرابي والكمحدون والفوشخانة وانواع الطاوات التي تستعمل لقلي اللحم والعروك وكانت عندهم لطبخ الرز طريقة تركت في ايامنا اذ كانوا (يفرﮔعون الدهن بالطاوة) ويسكبونه على قدر التمن وهذا مما تناساه الناس اليوم.
مجلة التضامن 1988
*
عن الشيخ جلال الحنفي
عبد الجبار السامرائي
في الرابع من آذار اخترمت يد المنون العلامة الموسوعي الشيخ جلال الحنفي البغدادي (بغداد، ١٩١٤- ٢٠٠٦). لقد كان الرجل انسكلوبيديا، ومكتبة متجولة، وشخصية طريفة ومقامجي ومقرئ قرآن من الطراز الفريد من نوعه، فضلاً عن اهتماماته بالتراث الشعبي ورائداً من رواده في العراق. ولو اردنا استعراض منجزاته في هذا الحقل المهم لاحتجنا الى تأليف كتاب قائم بذاته، ولكننا سنعرج على ما قدمه الشيخ الراحل من اسهامات خدمت التراث الشعبي، على سبيل المثال، لا الاحصاء وسنقتصر على الكتب فقط المطبوعة والمخطوطة
١- الامثال البغدادية، ج١، مطبعة اسعد، بغداد ١٩٦٢، ٣١٦ صفحة من الحجم الكبير
ج٢، مطبعة اسعد، بغداد، ١٩٦٤، ٢٥٦ صفحة من الحجم الكبير. كتب المقدمة الشيخ محمد رضا الشبيبي
٢- الايمان البغدادية، (مع ملاحق تضمنت الايمان الحلية والموصلية والعمارية والهيتية والسامرلية والكربلائية والناصرية)، مطبعة دار التضامن بغداد، ١٩٦٤، ١٧٤ صفحة / كبير
٣- معجم اللغة العامية البغدادية، ج١ ، مطبعة العاني، بغداد ، ١٩٦٣، ٤٣٤ صفحة / كبير، تضمن الالفاظ المبدوءة بحرف الالف
ج٢، مطبعة اسعد، بغداد، ١٩٦٦، ٢١٤ صفحة/ كبير، تضمن الالفاظ المبدوءة بحرف الباء
ج٣، مطبعة دار الشؤون الثقافية، ١٩٩٣، ٢٧٧ صفحة / كبير.
٤- معجم الالفاظ الكويتية، مطبعة اسعد، بغداد، ١٩٦٤، ٤٢٤ صفحة/ كبير
٥- الصناعات والحرف البغدادية، (بحث في الصناعات والحرف، مشفوع بثلاث وعشرين صورة فوتوغرافية)، مطبعة شركة دار الجمهورية، بغداد، ١٩٦٦، ٢٣٦ صفحة / وسط ، اصدار وزارة الثقافة والارشاد العراقية
٦- المغنون البغداديون والمقام العراقي، مطبعة دار الجمهورية، بغداد، ١٩٦٤، ١٢٠ صفحة/ وسط، من منشورات وزارة الثقافة والارشاد العراقية. وهي دراسة عن المقام العراقي والغناء البغدادي وتلقيه في الچالغي البغدادي والموالد والاذكار والتمجيد على المنائر، وتضمن الكتاب ٢٣٠ شخصية من قراء المقام العراقي، وقد ورد اسم الشيخ جلال الحنفي ضمن تلك الاسماء، قدم له عبد الحميد العلوجي، ونقده الحاج هاشم الرجب في مجلة (بغداد)، العددان (١٤ و ١٥) ١٩٦٤
٧- الدر النقي في علم الموسيقى، (تحقيق مخطوطة للسيد احمد بن عبد الرحمن القادري، المعروف بالمسلم الموصلي)، من منشورات وزارة الإعلام، مطبعة الجمهورية، بغداد، ١٩٦٤، في ٧٣ صفحة/ وسط
اصل هذه المخطوطة يحمل اسم (بيان المقامات الحلية مع الفروع والأوزان الاصلية) لمؤلفه عبد المؤمن البلخي، وهو بالفارسية. وقد ترجمه الى العربية المسلم الموصلي، وحققه الشيخ الحنفي وقدم له وعلق عليه – عن نسخة المرحوم سعيد الديوه چي – في الموصل المنسوخة عن نسخة عبد الغني النقيب. ويشير محتواه الى بيان اصل المقامات ودائرتها وتعلقاتها بالبروج والافلاك والساعات، وطبائعها وما يوافقها من الحروف حال قراءتها، والمجالس وما يوافق كل مجلس على حسب طبائع المستمعين، وكيفية قراءتها والتنقل من مقام الى مقام
٨- قواعد التجويد والالقاء الصوتي، نشر وزارة الاوقاف والشؤون الدينية – احياء التراث الاسلامي، مطابع دار الحرية ، بغداد ، ١٤٠٧هـ - ١٩٨٧م، ٤٩٠ صفحة / كبير
٩- لمحات عن المقام العراقي، نشر وزارة الثقافة والاعلام دائرة الفنون الموسيقية، من منشورات المركز الدولي لدراسات الموسيقى التقليدية، بغداد، دار الحرية للطباعة، ١٤٠٣هـ - ١٩٨٣م، ٢١ صفحة /كبير. وفضلاً عن اللمحات، صنف الحنفي رحمه الله اسماء قراء المقام العراقي حسب التسلسل التاريخي، ذاكراً اسم كل قارئ، والمدينة التي ينتسب اليها، وتاريخ الولادة، وتاريخ الوفاة، وهو جهد بارز حقاً.
١٠- التلاوة البغدادية ودورها في حماية النغم وانمائه، دراسة اعدها لمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي للموسيقى العربية ببغداد، عام ١٩٧٥
١١- المقام العراقي، تاريخه واصوله، لم يطبع. اشار اليه مؤلفه في كتاب (المغنون البغداديون) ص٢١، عسى ان تتولى طبعة اسرته من بعده
١٢- محمد القبانجي، تاريخه وحياته، مخطوط، لم يطبع
١٣- مستدرك (المغنون البغداديون) ، مخطوط لم يطبع
١٤- اطرف ما كتب الحنفي مقدمته الفولكلورية لكتاب (الزوج المربوط) وهو الرجل المخذول ليلة الدخلة، تاليف عبد الحميد العلوچي، الصادر عن مطبعة اسعد، ببغداد، عام ١٩٦٤، ٥٢ صفحة / وسط
ولو استعرضنا مقالاته وبحوثه الفولكلورية المبثوثة في الدوريات العراقية لاحتجنا الى مساحة كبيرة، وقد نعود الى هذا الاحصاء في مناسبة اخرى. رحم الله الشيخ جلال الحنفي الذي كان يحب تراث عراقنا الحبيب، ويحرص عليه كثيراً ، وكان يحثنا على الانهماك في جمعه ودراسته وعدم التخلي عنه. برحيل الشيخ الحنفي، فقد التراث الشعبي علماً بارزاً من اعلامه، لكن اثاره تبقى شامخة خالدة ومنهلا للدارسين
Comments
Post a Comment