الشيخ جلال الحنفي
جامع الخلفاء - بغداد
خلقت النغمة بخلق الصوت وعرف الانسان من العهد الذي ظهر فيه الى الوجود ذا صوت يستعين به على التعبير عن خلجات نفسه وعن مكنوناتها وعما يخيفه ويفرحه فكان يلاحظ ما يعرض لصوته من تطور في الاداء الصوتي فهو اذا اراد ان يفزع خصمه من انسان أو حيوان صاح صيحة تختلف كثيرا عن صيحته وهو يغرى حيوانا مستضعفا صغيرا بالاقتراب منه لكي يستحوذ عليه وهو اذا شب حريق في الغابة فصاح فان صياحه هذا يختلف عن صياحه يوم يداعب طفلا لديه ، وهو اذا أن من اعياء أو مرض فان ذلك يختلف لديه عما اذا زمجر وغضب .. وكذلك القول على الفرق بين بكائه وضحكه
يبدو من هذا أن النغمة عرفت من عهد سحيق في القدم ، وان أهل تلك الدهور أدركت ما كان من هذه النغمات طيبا مستساغا في السمع وما كان منها شديدا غليظا قاسيا على الاستماع و من هنا يمكننا القول ان النغمة سبقت ألفاظ اللغة لان ألفاظ اللغة تعتمد على تسمية الاشياء الموجودة في المحيط الذى يقطنه الانسان، ومن البديهي أن الانسان القديم لم يكن يملك من المقتنيات ما يحمله على تسميتها باسماء تتميز بها
ولذلك كان يكتفى في التعبير عن رغباته المحدودة بلغة صامتة هي لغة الاشارات ، و بلغة أخرى هي لغة النغم ، ثم تلا ذلك بعد حين طويل من حياته اهتداؤه الى الكلم والجمل والعبارات والخطب ونحو ذلك و بعد دهر طويل جدا اهتدى الى الكتابة ورسم رموزالالفاظ
أخلص من هذا إلى أن الاذن البشرية عايشت التعبير النغمي منذ نشوء الخلق ، وحين نعلم أن بعض الحيوانات والطيور تمتاز بأصوات رقيقة جميلة ، ندرك أن الدور الذى ادته النغمة في حياة الانسان كان دورا أصيلا كل الاصالة
وأزيد على هذا ان النغمة لعبت دورا جد عظيم في تدجين الخلائق الحيوانية ونقلها من حياة ضارية الى حياة اليفة مرتاضة ، وما تبرح الابل مثلا تهش لصوت الحادى فلا تسأم السير في الفلوات .. والموضوع من هذه الناحية لا يحتاج الى قسم
وكانت الآلات الموسيقية قد خرجت الى الوجود جريا وراء النغمة ، ابتغاء تحليتها والتنفيس عن المغني الذي يطول به الغناء فلا يراد له أن يسكت دون بديل .. وكذلك من أجل أن يبلغ صوت الغناء الى مسافة لا يبلغها صوت المغني لكي تتجمع الناس اذا أريد لهم أن يجتمعوا ، ومن هنا كان الطبل بريد الموسيقى
يحدثنا الفارابي أن الحناجر البشرية هي أدق جميع الآلات الموسيقية المعبرة عن النغم ، وفي كمال أدب الغناء ما ينوه بأن الحلوق كأنها مزامير طبيعية وان المزامير كأنها حلوق صناعية ، وقد أجمع على هذا المعنى جمهرة كبيرة من علماء النغم والموسيقى من المعاصرين فانهم لم يجدوا بعد آلة موسيقية تبلغ من صدق التعبير عن النغم ما تبلغ الحلوق الأدمية التي تعد اعظم تخت موسيقى خلقه الله
أنتهى من هذا الى أمرين اثنين هما أن الغناء خلق منذ خلق الانسان فظل يعتمد فيه على حنجرته دون الاتكاء على الآلة التي جاءت تبعا تابعا ثانوى الشأن في مسألة التأصيل النغمي وصنعة اللحون .. كما أن الكتابة جاءت متخلفة في دورها عن الكلام الذي ظهر في حياة
الانسان قبل ظهور الاقلام والصحف
والشيء الثاني هو أن كل نغمة معروفة في عهدنا هذا قد تكون ذات نسب بما سمعته الاسماع في الدهور الاولى من نغم قديم
و تمايزت الامم القديمة بما انتظم لديها من النغم واللحون اذ باتت الالحان من المطالب الحضارية اللازمة فكثرت لدى الاقوام الذين بلغوا من التحضر مبلغا عظيما وقلت لدى غيرهم .. ثم وجدنا اصحاب الديانات السماوية والوثنية تتقبل النظم وتتخذه سبيلا الى التعبير عن فعالياتها الدينية وعن رقصاتها الروحانية وعن تعلقها بالسماء ووجدنا أهل اللهو والطرب وليالى الانس يصيبون من هذا الأمر نصيبا عظيما قادركنا بهذا أن النظم لقى عبر التاريخ البدائي والحضاري عناية عظيمة وخدمة مستديمة وتبين لنا أن الدنيا كلها منذ العصر الحجرى وما قبله اعترفت بقيمة ما يسمى بالنغمة وما يتكون منها من اللحن وضروب الغناء
وكانت للعرب في أيام جاهليتهم وأعني بذلك فترة ما قبل الاسلام ألحان وانغام وأنماط من الغناء أقرها الاسلام واعترف لها بالجمال والابداع واثقان الصنعة. فانا روينا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابی موسی الاشعرى أحد ذوى الاصوات الصيتة الجميلة من مقرئي القرآن الكريم على عهد الرسول « لقد استمعت اليك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فرد أبو موسی قائلا لو كنت أعلم أنك تستمع الي لحبرته لك تحبيرا هذا النص يعبر لنا عن التمكين النغمي لدى القوم ابان جاهليتهم واسلامهم وكان عبد الله بن مسعود من مقرئي القرآن المجيدين على عهد الرسول يقول واصفا قراءته بأنه كان يقرأ القرآن متأنقا في قراءته لاسيما حين يقرأ في آل حم وهى سبع سور قرآنية وصفها ابن مسعود بأنها روضات دمثات مما نستبين منه أن ابنه مسعود كان يجد تألقا نغميا في حنجرته يوم يتلو آيات من تلكم السور وان تأنقه في القراءة كان يرسم لنا عظمة المجال النغمي الذى كان الرجل يملكه هو وكان المحيط يجد نفسه مأخوذا به
ومن هنا جاء الحديث النبوى القائل « من أراد أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد » ، أي بقراءة عبدالله بن مسعود .. فانها كانت غضة وانما كانت كذلك لتلبسها بلبوس النغم العذب الذي امتاز به الرجل . وفي العهد الأموى عظم شأن النغم وكثر الاقطاب الكبار من أهل التلاحين والاغاني وتسربت الى دمشق عاصمة الدولة أنغام من هنا ومن هناك وقد بات الغناء يومئذ من المعالم الحضارية التي يزداد بها المتأدب شأنا وقدرا .. وفي العهد العباسي اذ باتت بغداد عاصمة الدولة بلغ النغم أعلى قمم أوجه وقد اختلطت هنا انغام البادية منذ العهد الجاهلي وأنغام الروم والفرس والهند وما الى ذلك من الثروات النغمية فباتت لنا من هذا الامر الى انصباء لم تملكها أمة من قبل من اسم الارض في المضمار النغمي العظيم
هذه حقائق تاريخية ثابتة ووقائع متسلسلة الحلقات في حكاية النغم والغناء .. وظل الامر على هذا المنوال الى ايام قدوم المغول فاستمع هولاكو الفاتح التترى نفسه الى ضروب من اللحن المتوارث أثر في نفسه وهو ذو نفس خشنة متعسفة فاتكة مدمرة مما نستدل به على شيئين احدهما قوة النغم العباسي وشدة تأثيره في النفوس ولابد أن يكون المغنون قد اختاروا لتلك المناسبة ما اختاروا والشيء الثاني هو أن الشأن النغمي العباسي كان لا يزال مكيناً في مكانه لم تضل منه ضالة
ترى أين بقايا ذلك الركاز العظيم من النغم ؟؟ أيمكن أن يكون قد زال بالمرة وبات لا أثرا ولا عينا : أنشأنا بعده أنغاما وتلاحين نعيش
عليها اليوم ؟؟
أخلص من هذا الى أن صلتنا بالنغم العباسي لم يعرض لها ما يقطعها خلال الاجيال التي تلت تلك الحقبة فنحن ماشون على تلك القدم نفسها بخطوات قد تكون قصيرة وقد تكون طويلة وهذا أمر بديهى في هذا الشأو (*)
ويؤكد لنا هذه الحقيقة أن النغم كان حاجة دينية اذ يتلى به الكتاب المجيد ويلقى خطباء المنابر خطبهم على خطوطه ويناح الموتى وفق لحونه وينوم الطفل على ترانيمه وتجرى فصول الموالد النبوية بمقتضى مناهجه وفي الاعراس والحفلات الشعبية يكون الله السهم الأكبر من حقول الناس واهتمامهم .. فكيف يصح في الذهن أن يتبدل بين عشية وضحاها فيعدم العراق جميع ثروته النغمية المتكدسة ليبدأ من جديد خلق شيء آخر جديد
ان الميراث الشعبي لا يزول بالمرة وان اجتمع على ازالته اكثر من سبب وانا حتى يومنا هذا نجد ملامح من حياة الجاهلية الاولى لم يقض عليها لا طول الزمن ولا قوة الحكم الديني ولا تطور الحياة فلقد حرمت الشريعة النواح على الموتي ونهت عن اجتلاب النائحات ولكن النائحات لم يبرحن يصلن ويجلن في المأتم النسائية خاصة على ذات النحو الذي عرف في الجاهلية
العامة
والغناء ميراث شعبي وكان في العراق اضافة الى ذلك مطلبا حضاريا اعتنقته الدولة وزكته وألف فيه خيرة أهل العلم وعظماء الفلاسفة والفقهاء وكان عدد المقرئين في بغداد والمغنين كثيرا جدا بحيث يمكن عدهم بالالاف .. فان ابن الجوزى الواعظ كان يجلس بين يديه العدد الكبير من المقرنين يتلو كل منهم ما تيسر له من أي الذكر الحكيم في المجلس الواحد .. ولولا كثرة القراء في بغداد هاتيك الايام كثرة مفرطة لما كان هناك ما يدعو الى تعدد المقرئين في مجلس وعظ واحد
وكان الصراع مستديما بين المقرئين والمغنين يتسارق كل فريق من الفريق الآخر أنغامه وتلاحينه ليدسها هذا في تلاوة القرآن الكريم ريدسها هذا في بعض أغانيه .. مما يتقرر عندنا به أن النغم العباسي لم يكن من الضعف والضالة والهوان بحيث يهلك دون ان تبقى له باقية
ولم تكن بغداد قد أبيدت بالمرة بعد غزو المغول وانما بقى فيها من أبنائها خلق كثير كما أن عددا عظيما من سكانها فر الى أنحاء بعيدة ثم عاد اليها بعد انحسار الغمة عن البلد
فالنغم العباسي اذن ما يبرح عائشا بيننا متيما في تلاواتنا وفي مقاماتنا وفي عتاباتنا وفي سائر المظاهر النغمية الموروثة في بيئتنا
ان الدويلات التي حكمت العراق بعد عهد المغول لم تكن ذات وسائل اعلامية مسيطرة على الناس بحيث تفرض عليهم انماطا من النغم والغناء دون ما الذوه من نغم وغناء فان ذلك ليس من مسائل الدول والحكام ولا كان ذلك في مقدورهم أصلا .. وذلك لعدم وجود الوسائل الإذاعية والإعلامية الموجودة اليوم لدى تلكم الاجيال المنصرمة وبهذا يكون الأمر قد ظل على حالته الاستمرارية المتوارثة من العهد العباسي
أما أصل المقامات العراقية فانها على ما يبدو ضروب من الغناء العباسي القديم تعرضت لشيء من التطور من النواحى الشكلية وقد تكون التحارير القديمة والصيحات قد بدلت ببعض الألفاظ الفارسية والتركية فان التحارير أو الصيحات مسائل طبيعية في الغناء المهذب الرصين
وسأعود الى هذه النقطة ثانية في ذات البحث . ان الذى يجعلنا نتخبط في حكاية المقام العراقي وصلته بالماضي القديم انما أنا نفتقد المصادر العلمية التي تبحث في أوصاف الغناء العباسي وأساليبه وهذا على ما أرى أمر موقت فان هناك العدد العظيم من المخطوطات الغنائية والموسيقية القديمة المتناثرة في مكتبات العالم ولا يملك أفراد بأعيانهم أن يجتلبوا جميع هذه المصادر لتكون في متناول يد الباحثين فلو عنيت الدولة باقامة مكتبة موسيقية صوتية ثم جمعت من مكتبات العالم ما فيها من مخطوطات نغمية تتعلق بالنغم العربي والعباسي وما ألف خلال تلك الحقبة فلعله سيتهيأ لاي باحث من الباحثين أن يضع اصبعه على حقائق علمية في هذا الموضوع دون لف أو دوران
ومما ينبغي ان يشار اليه هو ان علم الصوتيات والتدوين الموسيقى لم يكن في الازمنة القديمة قد بلغ ما بلغه اليوم من القدرة على تثبيت
النصوص وضبط الالحان ولذلك كان الكتاب القدامى يعييهم توضيح أمور كثيرة هي اليوم ممكنة التوضيح
على أنا وجدنا في المخطوطات المكتوبة أوائل القرن الهجرى الثامن ذكرا للفظة المقام وقد جاءت بمعناها الغنائي وعلى فرض ان لفظة المقام لم تكن قد وردت في مصادر أقدم عهدا من عهد هـــــذه المصادر فان ذلك يحكم لنا بأن المقام لفظ أطلق على ما كان قد بقى من الغناء العباسي الذي عاش حتى تخطى أيام موجة المغول
لان تثبيت المصطلح لا يمكن ان يتم بعد استعماله الا بفترة كافية لذيوعه وكانت بغداد قد احتلت من قبل المنول في النصف الاخير من القرن السابع الهجرى فالفترة التي تم فيها تسمية المقام بهذه التسمية لا يمكن أن تكون فترة ما بعد المغول .. لان المصادر التاريخية لم تشر إلى هذا .. ولا يمكن ان يكون المقام قد نشأ خلال تلك الفترة المحدودة التي أعقبت عهد الحكم المغولى لان الامر لو كان كذلك لما شاب عن أهل التدوين
ولعله من الحقائق التاريخية أن المغول لم يتركوا أي أثر أدبى أو موسيقى أو اجتماعي في هذا انا غادروا وهو على ما كان عليه من السجايا .. والملكات ... الدليل على هذا أنا لا نجد في العراقيين من يحمل اسما مغوليا .. وأن الالفاظ المغولية التي تسربت الى العامية البغدادية لا تجاوز اصابع اليدين . فما أبقى المغول في البلد من طابعهم ولا بصمة واحدة .
فكلمة المقام اذن معروفة في البلد من عهد هو هو أقدم بكثير من عهد المغول .. ونبأ ذلك حتما في بطون المخطوطات التي لا نملك منها شيئا مع الاسف . وانما نحن هنا نلاحق القرائن ونتابع المعلومات الاولية
أما القول على المقام العراقي فانه لا يستوعبه حديث واحد فهو فن رائع عظيم يستحق كل الحرص والرعاية ، رغم ما يظنه فيه جاهلوه من ظنون ... وليس من الغلو أن ترى للعراق طولا في مضمار النغم والموسيقى الغنائية على كثير من الاقطار
ولقد كان حريا أن تعنى الهيئات الادبية والموسيقية - عندنا ـ بتعريف المقام العراقي وعرض ملامحه الفنية في شتى انحاء الوطن العربي ليلم بأمره من لا يعرف عنه شيئا
ولئن كانت أصوات فريق من قراء المقام العراقي بغير صالحة للتعبير عن مكانته وتصویر روائعه فلا تزال هناك دواع كثيرة تدعو الى اكبار هذا الفن الخالد وتقديره حق قدره .. وانا لنستطيع أن تلمس بعض ذلك حين نتابع سير المقام في فلكه الفني العالى الرفيع
المقام العراقي من حيث طريقة الالقاء على أسلوبين
الاول منها أن يبدأ المغني مقامه بلهجة هادئة مترنحة وصوت عريض واطىء ضخم النبرات أحيانا ويسمى هذا بالتحرير .. وبعد أن يمارس المغني أداء الانغام الكائنة في صلب المقام وتضاعيفه على النحو المرسوم تعرض له بعض الصيحات المعينة المرسومة أيضا وهي صيحات يسمونها - ميانات - جمع ميانة فاذا استوفى نقله النغمية أتم مقامه بلهجة تقارب الى حد ما لهجته الاولى عند التحرير ويسمى الختام عندهم بالتسلوم
و من المقامات التى تؤدى على هذه الطريقة مقام الرست والبيات والسيكاه والخنبات والدشتي والشرقي اصفهان والابراهيمي والمنصوري والمخالف والبختياري والحديدي والصبا والاوج والنوى والعشيران عجم والحجاز ديوان والحسيني والمدمي والقطر والمخالف والپنجگاه
أما الاسلوب الآخر - في الطريقة الالقانية فهو طريقة الإلقانية فهو أن يبدأ المغني قراءة مقامه بصيحة عالية تطول وقد يصعد بها الى طبقات متعالية أو ينزل الى طبقات متدانية ولا تسمى هذه الحالة تحريرا بل تسمى بدوة. وفي خلال ممارسة الانغام التي يتألف منها ملاك هذه المقامات تعرض للمغني صيحات خاصة على نحو ما سميناه بالميانات في الاسلوب الاول غير ان هذه لا تسمى بالميانات هنا بل تسمى صيحات
والفرق بين الميانات والصيحات أن طبقة الميانة تكون من طبقة التحرير اما الصيحات فانها لا تخرج
عن طبقة البدوة
ويختم هذا النوع من المقامات ذوات البدرة بما يسمى بالتسلوم أيضا
ومن المقامات المؤداة على هذا النمط مقام الطاهر والحليلاوى والدشت والمحمودي والشرقي دوگاه والارواح والنارى والراشدي
وقد اتخذوا لتحرير المقامات وبدواتها ألفاظا مرسومة حلت عندهم محل النوطة ففي السيكاه يكون التحرير عبارة عن تكرار لفظة « أللى للى للى للى لا » ... ، وفي تحرير الابراهيمي يكررون لفظة أخي ، وفي النوى « أمان أمان أمان أمان أي » وفي تحرير الرست يار يار يار، وفي تحرير المدمى . أي ولك ای ولك . وفي الخنبات بریار بریار يريار
أما البدوات فان بدوة الارواح تكون بلفظ ه منا بالله يا حالي » وبدوة المحمودي بلفظ « لا والله يا عيوني »، وفي الشرقي دوگاه « لا بلى لا بلى ، وفي الطاهر ، ألال يا لال يا لال ، وفي بدوة الراشدى اببه نینم وكذلك الحال في الميانات فان هناك الفاظا خاصة يعتمد عليها في أدائها ولهم في خواتيم الفاظ ولزوميات مقررة
ان اصغاءة ممعنة الى تلك التحارير والبدوات والميانات وهي تتقلب على حناجر المغنين لتتكشف عن مظاهر رائعة من الحذق والتجويد الفني لا يمكن المرور على مثلها دون الاعتراف لهذه الصناعة بالابداع والسحر والفتنة ولعل بين سامعي هذه المقامات من يظن أن القوم انما يلفظون بالفاظهم وصيحاتهم على غير وجه واضح ولا خطة مخطوطة في حين ان كل نبسة لهم ببنت شفة تستند الى قانون يلتزمون باحكامه وأصوله ويقفون عند حدوده ورسومه
وعلى رغم ما يغلب على كثير من قراء المقام العراقي من الأمية فقد عرفت فيهم خصائص حرية بالاعجاب والتقدير فهم يتقنون ضبط الطبقات الصوتية اتقانا عجيبا يعتمدون فيه على الفطرة لا غير وانهم لينتبهون بسهولة ظا ظاهرة لمن يخرج عليها ويجدون ذلك من أسوء العيوب التي لا تغتفر في شرعة الغناء
والمعروف في المواسقة والمغنين في الغرب أن يعتمدوا في ضبط الطبقات الصوتية على آلات دقيقة يحملونها معهم دائما
ينقسم المقام العراقي من ناحية الاداء اللفظي الى ضروب عديدة
الضرب الاول منه ما يقرأ فيه الشعر الفصيح ومن ذلك مقام الحسيني والحجاز والصبا والنوى و المنصوري
والضرب الثاني ما يقرأ فيه الزهيرى وهـــو الموال المنظوم على نمط خاص ومن هذه المقامات الناري والحديدى والمخالف والمدمي والعريبون عرب والحليلاوي والجبوري والقطر والشرقي اصفهان و الشرقي دوگاه والابراهيمي
قرا الملا عثمان الموصلي مقام الابراهيمي بالقريض
والضرب الثالث ما يقرأ بشعر أعجمي غير عربي كمقام التفليس فانهم لا يزالون يقرأون فيه شعرا بالتركية يقال ان أحد كبار المغنين في بغداد من رجال القرن الماضي كان قد نظمه وغناه وانه هو مخترع هذا المقام وصانعه وقد قال في أوله
أغا لر بک لر پاشا لر
گون بو
بر یاوری سیودم
أو لمشم ديوانه بن
گدرم
تفلیسه بن
ومعناه أيها الاغوات والبكوات والباشوات لقد أحببت اليوم حبيبا وقد جننت لفرط حبه وسأذهب الى تفليس لان ذلك الحبيب ذهب اليها
ومما كانوا يقرأونه بالتركية مقام البشيري والباجلان
اما مقام العريبون عجم فلا زالوا يقرأون فيه شعرا بالفارسية أوله
ای کریمی کی از خزانه و غیب
كبر ترسا وزيفة خور داری
دوست آن را کجا کنی محروم
تو کی بادشمنان نزر داری ۰۰
ومعناه أيها الكريم الذي بيده خزائن الغيب يرزق منها الذين كفروا به لماذا تحرم أحباءك في حين أعداءك. وكانوا إلى عهد قريب يغنون
الرست والبيات والدشتي بالفارسية
وينقسم المقام العراقي من حيث ما يكون له الحس النغمي في النفوس الى مقامات شجية وهي ضروب منها ما يكون ظاهر الشجو شديد الاثر في النفس كمقام انى والحديدي والمخالف والسفيان زمنها ما يكون هادئا لينا كالصبا والمنصوري والكلكلي
وهناك جماعة من المقامات ذات مستوى عال من الوقار والفخامة كملام الابراهيمي والمنوى والبيات والرست. أما المقامات التي تطغى عليها الخفة ويكون لها في النفس انتشاء ظاهر فمنها الحليلاوي و الطاهر والارواح والخنبات والحسيني
وهناك مقامات تبعث في النفس السكينة والاستقرار والطمأنينة ومنها القزازي والسعيدي و البختياري. وبهذا ينتفى كل الانتفاء ما اتهمت المقامات العراقية من كونها منطوية على الحزن والهم والتشكي وانها ليست سوى مناحات وآهات
على أن الاحزان أو ما يميل اليها من الالحان انما هي من بعض حاجات النفوس حين تنقبض أو يعرض لها من عوارض الحياة ما يجعلها تود أن تشكو لمن يعين على الاحداث أو يتوجع
وليست الدنيا كلها وفي كل مكان على حال واحدة من الخير لا تتبدل ليكون الغناء كله فرحا مرحا فانا قد أدركنا كنه الايام وعرفنا ما طبعت عنيه أمورها من بأساء وضراء ولذلك كان لهذه الجوانب على تباينها واختلاف ألوانها من الالحان ما يلائمها ويتفق وأهواءها
وقد بحث القدماء في طبائع الانغام وعلاقاتها بما يسر ويحزن وما يصلح للترويض والتربية وما يعين على النشاط والحركة وما يدفع الى الحماس وما يؤدى الى الركود وقد ادعوا ان في الانغام ما يحمل المستيقظ على النوم ..
وكذلك لوحظت في بعض المقامات اختصاصات ثابتة فالخنبات والبنجكاه عندهم في الغالب للخمريات. والجبوري والمحمودي للفخر والحماسة. والحديدي والخلوتي والماهورى لبعض والمدمى للتشكي المناسبات الروحية والتعبدية وبذلك يتأكد خطاً من ذن ان المقامات العراقية يجمعها اطار واحد من الشجن والحزن العميق
وينقسم المقام العراقي الى قسمين آخرين هما البساطة والتركيب .. فالحكيمى والدشتي والجمالي والحویزاری واللامي والاوج والتفليس والصبا والمثنوى والبيرزاوى والپنجگاه والجبوري مقامات ساذجة بسيطة فهي تتألف من نغمات محدودة هيئة التلاقي ولذلك كانت من أوائل ما يسهل على ممارسى الغناء تلقيه وحفظه
أما المقامات المركبة فهى التى تتألف من مجموعات نفسية كثيرة بالاضافة الى أن تحاريرها و بدراتها رمياناتها وخواتيمها ليست مطواعة لكل ناعر ينعر بصوته فهى تتطلب سيطرة موفقة على النغم وقدرة متمكنة من الاداء ونفسا طويلا وجرسا ضخما يسعف القارىء حين يتقلب بين الطبقات الصوتية استعلاءا و استفالا وحين ينتقل بين مجارى الانغام فصــــــــــــلا و وصلا
ومن هذه المقامات مقام الابراهيمي والنوى والنارى والطاهر والعريبون عجم والدشت والرست و البيات والسيكاه
وحين اعود الى الكلام على أصل المقامات العراقية ومنشأها الاول فان اسمها ونسبتها يدلان على ذلك فهى عراقية من صميم ما تركته الحضارة النغمية في العراق منذ عهد العباسيين وما قيل من ان بعض الاسماء الفارسية والتركية فيها تدعو الى التشكيك في صحة كونها عراقية بحتة فان ذلك لا عبرة له في الموازين النغمية والاسماء يسميها من شاء فلا تؤدى الى تحويل طبائع المسميات
وما ادعي من كون المقامات العراقية تركية المنشأ وان الاتراك العثمانيين جاءوا بها ايان حكمهم العراق لا يقوم عليه دليل واحد لان الاتراك انفسهم لا علم لهم بما في المقامات العراقية من عمق ومن تفصيل. وهم كذلك حكموا كثيرا من الانحاء والارجاء فما تركوا فيها شيئا يشبه هذه المقامات في قبيل ولا دبير فهم حكموا مصر وتونس واليمن وسورية والجنوب الغربي من الجزيرة العربية فما وجدنا لما يشبه المقام العراقي اثرا هناك. وليس من المعقول ان يصطفوا العراق وحده بهذه الثروة النغمية الفخمة دون ان يبقوا لغير العراقيين بقية من ذلك
على انه لا غرابة أن يأخذ المغنون العراقيون بعض ما استحسنوه واستملحوه من أنغام الشعرب الأخرى فيبدو في بعض ملامح غنائهم مما رأوه منسجما الانسجام التام وطبيعة موسيقاهم العريقة
ومن ملاحظة انماط المقام العراقي نرى ان هناك مقامات وانغاما ما تبرح عليها سحنة البداوة العربية كالجبوري مثلا والحديدى والمدمى والصبا والشرقي دوكاه والسلمك وهي كثيرة
والمقامات العراقية التي ما تبرح معروفة في بعض الانحاء المجاورة ان كانت غير عراقية الاصل فلقد باتت بحسن تصرف المغنين العراقيين عراقية بحتة لانها لعبت بها حناجرهم فازالت عجمتها لم تكن تلك الانظام الاعجمية في نفسها عراقية بلغت اسماع الاعاجم منذ العصور الأولى اذ كانت بغداد منبع اشعاع حضاری عظیم شاسع
والتلاقح النغمي بين الأمم ليس من البدع المستغربة التي تدل على ضياع أصول الاشياء، وهكذا كان المقام العراقي صنع وخلق وأضاف وحور وطور وما في هذا ما يفقده حقيقته الثابتة فيجعله في نظر البعض غريبا عن العراق وليس من أهله
ان المقام العراقي حقيق بالحفول والاهتمام والرعاية لانه ثمرة طيبة لاكرم شجرة كريمة هي شجرة النغم وانا نعلم ان كتاب الله العزيز يتلى بانغامه فيمنحه بهذا فضلا وتزكية ونماءا، وما اعظم ان يكون كتاب الله وعاءا لشيء يستوعبه فيكرم به ويعظم
ومن المهم أن أشير إلى بعض العوامل التي ينبغى اللجوء اليها والتشبث بها من اجل ان يعود المقام الى سابق مجده وينتقل من حضيضه متجها الى أوجه. فيؤدي دوره من جديد في انعاش النفوس وتطريبها وتهوين اعباء الدهر عليها واضحاك سنها والتسرية عن همومها
ان المقام العراقي من أروع منح الحضارة القديمة للجيل المعاصر لو كان الجيل المعاصر يدرك فحوى المقام وروعته وجلالة قدره وعظم شأنه
هذه القطع الخالدة لا يجوز اهمالها والغفلة عنها . لاعتبارات ذاتية قيمة في أي حساب علمي أو فني
الذي اقترحه في هذا الباب هو انشاء معهد لتعليم المقام العراقي ودراسة انغامه وآلاته الموسيقية. والعمل على تكوين وعي ثقافي يتصل بهذه المادة الغنائية القيمة وذلك بالسعى الى جلب الكتب المؤلفة في هذا العلم أي علم الانغام ، واقتناء المخطوطات العربية التي يمكن الحصول عليها تصویرا او استنساخا أو بأية طريقة ممكنة وهذا عبء لا تنهض به الا جمعية علمية نغمية مسؤولة
وينبغي كذلك اعادة تسجيل جميع الاسطوانات التي سجلت فيها المقامات العراقية منذ بدء التسجيل الاسطواني
وكذلك القيام بوضع دراسات مفصلة عن المقام تصلح أن تكون مصدرا تعليميا المتعلميه و ينبقى ملاحظة أشياء ثلاثة في هذا الأمر هي
اختیار ذوى الاصوات الطيبة الصيئة من الشباب بالطبع واغرائهم بتعلم المقام تعلما تاما على وجهه الموروث دون تصحیف ولا تحريف
ويجب كذلك اختيار النصوص الشعرية الحسنة من القريض والزهيريات ليتغنى بها فيكون لها تأثيرها الفعال في النفوس. فانا وجدنا فريقا من الملفوظات الشعرية لا تصلح للغناء الذي يستهوى السامعين بل وجدنا بعض النصوص ركيكة وملحونة
اذن لابد من الاستحواذ على أقانيم ثلاثة في هذا الأمر هي النغمة والصوت الجميل والنص الشعري المهذب الاخاذ للالباب والملائم للمطالب الحيوية
ولعلي أقف على الحقيقة بقدم راسخة يوم أقول ان هذه الاقانيم الثلاثة لعبت دورا في رد الحياة الى المقام العراقي يوم ظهر استاذنا محمد القبانجي في بغداد فأجاد وأبدع بما غنى من تلك المقامات فلفت انظار ذلك الجيل الى هذه التحف العظيمة وقد كادت الناس أن تنصرف كليا إلى أغاني مغنيات حلب وأغاني مغنى مصر وكانت قد تدفقت على بغداد في موجة عارمة طاغية كاسحة
ان محمد الكبانچي برهن لنا على ان الصوت الجميل والنغمة العذبة الموروثة والنص الشعري الفخم تعد هي ركائز هذا الامر ولذا ينبغى اعادة التجربة من جديد وما نشك في نجاحها أدنى شك
(*)
أورد في كمال أدب الغناء وهو من مؤلفات القرن السابع الهبري قوله ( والغناء القديم فهو ذا يتكرر على مسامعنا طول الزمان )
Comments
Post a Comment