الطريقة القندرجية في المقام العراقي
حسين اسماعيل الاعظمي
اختزن المطرب الكبير رشيد القندرچي في فطرته وعقله خلاصة ما سمعه وتعلمه من الطرق الغنائية القديمة التي كانت سائدة في عصره، الممتدة اسسها من القرن التاسع عشر، التي كانت ابرزها واهمها طريقة استاذه المطرب الحاذق احمد زيدان (١٨٣٢-١٩١٢) وطريقته الفـذة (الطريقة الزيدانية)، حيث ادركها رشيد القندرجي وعاش اعماقها وحلل اشكالها ومضامينها واستنبط منها بعدئذ طريقته الغنائية الفذة التي وصل بها الى ذروة كلاسيكية كل الطرق التي سبقته مجتمعة، مما أحدث انعطافا كبيرا لدى المتلقي في التذوق الجمالي للاداءات المقامية، اذ قلب فيها كل الموازين الأدائية في زمنه ليتوج بالاجماع اسطورة عصره بعد ان تبلورت اسس طريقته الرصينة التي اثرت في الكثير من المغنين المقاميين الذين جاؤا بعده وتبعوا طريقته. و رغم كل ذلك فان ما كتب عن رشيد سيظل قاصرا ازاء مدرسة متكاملة في اصول صناعة و صياغة الانغام، فرشيد كان صائغ نغم و مهندسا بارعا في الوصول الى الكمال.
اتباع رشيـد القندرچي
لقد كان النتاج الفخم في تسجيلات المقام العراقي للمطرب الكبير رشيد القندرجي مؤثرا جدا في اوساط المغنين المعاصرين و اللاحقين له. و قد بقي تأثير طريقته الغنائية في الاوساط المقامية زمنا طويلا و من اشهر اتباعها من المغنين المقاميين عبد القادر حسون، احمد موسى، الحاج هاشم الرجب، شهاب احمد الاعظمي، رشيد الفضلي، يونس يوسف، عبد الخالق صالح رحيم، سعيد دخان، حسقيل قصاب وغيرهم، رغم التحولات والمتغيرات التي حصلت لشتى مجالات الحياة، ورغم بداية شيوع شهرة محمد عبد الرزاق القبانجي وطريقته القادمة للمنافسة في النصف الاول من القرن العشرين. والطريقة القندرچيه بالذات قد قلَّ اتباعها وافل نجمها في العقود الاخيرة من القرن العشرين إلا أن رشيد وطريقته لم يزل له تأثير لدى البعض من المغنين المقاميين الذين يروق لهم التغني بطريقته .. ونحن اذ نتحدث عن رشيد القندرجي وطريقة غنائه وفنِّه المقامي ، فقد اطلقنا على طريقــته في الغـناء ( الطريقة القندرچيه) نسبة اليه اولا ومصطلحا نتداوله بفن رشيد القندرجي واسلوب طريقته، باعتبارها خلاصة الطرق القديمة التي جعلها القندرجي مهذبة في شكلها ومضمونها الى اللاحقين من بعده.
ان من اسباب افول نجم الطريقة القندرچيه في النصف الثاني من القرن العشرين هي التحولات والمتغيرات التي احدثتها تطورات العلوم الصناعية، لتمسي هذه الحقبة الزمنية الكبيرة حقبة للتحولات بكل ما تعنيه هذه الكلمة ( حقبة التحول) وفيما بعد حقبة للتجارب الفنية (حقبة التجربة) وهو ما اطلقناه على هذه الحقب من الزمن ، ومن ثم ظهور الافكار الحديثة والجديدة والابداعات والتطورات التي كانت احد اسباب شيوع شهرة محمد القبانجي وشيوع طريقة غنائه التي اطلقنا عليها ايضا اسم ( الطريقة القبانجية) لامتلاكها المقومات الفنية هي الاخرى لتمسي تيارا جماليا وذوقيا في الغناء والموسيقى المقامية في النصف الاول من القرن العشرين. فالفارق الزمني بين ظهور رشيد القندرجي و محمد القبانجي رغم انه عدد من السنوات لاتتجاوز الخمسة عشر سنة، إلا أنه امسى في- حقبة التحول- زمنا ليس قليلا في عصر اصبحت السرعة سمته الأكثر حضورا، وكان كافيا ان يحدث تغيّرات وتحوّلات جمالية ذوقية في الغناء المقامي. اذ لم تتح للقندرجي فرصا تسجيلية للمقامات العراقية بصوته كافية عندما كان في ذروة نضوجه في السنوات الاولى من القرن العشرين، اذ لم تصل بعد شركات التسجيل الصوتي الاجنبية الى بغداد. وحيثما حل العقد الثالث والرابع من هذا القرن وقد وصلت الشركات الاجنبية لتسجيل تراث الشعوب الغنائي كان القندرجي قد بدأ نجمه بالافول وبدأ صوته يصاب ببعض الخراب، بينما كان القبانجي في هذه الفترة بالذَّات قد واجه هذه الشركات وسجل لها الكثير من المقامات والاغاني العراقية وهو في ذروة نضوجه الفني في الغناء المقامي. لذلك فقد كانت ظروف هذه الحقبة لكلا المطربين الكبيرين قد أثرت على نحو ما سلبا على الطريقة القندرچيه بصورة عامة، في حين ساعدت هذه الظروف ايجابا على نجاح ورسوخ اسس الطريقة القبانجية ونجاح مؤسسها محمد القبانجي الذي فاق التصورات.
وعليه فقد اخذت الطريقة القندرچيه فعلا بالاضمحلال، خاصة وان تسجيلات القندرجي جاءت اكثرها بصوت مستعار استخدمه القندرجي نزولا عند ظروف قابليته التي اجبرته على التخلي عن طبيعته الغنائية وليس باختياره تم ذلك، واشيع بين الاوساط المقامـــية والجماهيرية وبصورة واسعة جدا ان القندرجي يغني بصوت وطبقة ( الزير) ويقصد بهذا المصطلح بالصوت المستعار، ولم يسجل بصوته الطبيعي إلا في بعض المقامات مثل مقام البيات المغنى بشعر فارسي. وفي مقامات اخرى نجد مقاطع منها او اغلبها بطبقة صوتية منخفضة او في القرار عموما. وكذلك جاءت تسجيلات اتباعه مفعمة بسمات طريقته واكثرها ميزة ذلك الغموض العام السائد، وتلك الادغامات في لفظ الكلمات ومخارج حروفها وعدم وضوحها عند الغناء والتي دحرتها الثقافة الجديدة لحقبة التحول حيث جاء القبانجي ليعلن عن هذه التحولات وبدء عصر ثقافي جديد للمقام العراقي وللحياة الغناسيقية في العراق برمته. وبالتالي تطورت الكثير من السمات القندرچيه في حقبة التحول واصبحت اكثر ملائمة على يد تلميذها المتمرد محمد القبانجي الذي لم يأخذ من سابقيه بصورة تقليدية وانما استوعبهم واستنطق اساليبهم فأوجد الحداثة في غناء المقام العراقي في كل ما سمع وتعلم ولذلك اصبحت التسجيلات الصوتية لرشيد القندرجي واتباعه في حقبة التحول الى المتلقي دون إثارة كافية ، في حين ان تسجيلات القبانجي كانت غاية في الروعة والوضوح وبها وصل القبانجي الى قمة المجد المقامي في العراق
جذورالطريقة القندرچيه
لقد كان رشيد القندرجي يسير من الوجهتين الفنية والاصولية في المجرى الواضح للاسلوب الكلاسيكي الذي اتسمت به الطرق القديمة للغناء المقامي التي سبقته نسبة لزمنها، ولعل من اهم مميزات الطريقة الرشيدية هي تلك المسارات اللحنية المخضرمة والمعبرة عن جذور واعماق شكل ومضمون المقام العراقي التي تصور حياة العراقيين بكل تاريخهم وحياتهم. و بعد شيوع هذه الاسس اللحنية و تعابيرها من خلال التسجيلات الصوتية لاول مرة في حقبة التحول المستمدة اسسها من المغنين السابقين مثل عبد الرحمن ولي (١٧٤٤-١٨٣٠) و حسن البصير الشيخلى ( ١٧٩٠-١٨٧١) و رحمة الله شلتاغ(١٧٩٣-١٨٧١) و سعيد محمد الاعظمي (١٨١٧-١٨٨٥) و حمد بن جاسم ابو حمّيد (١٨١٧-١٨٨٠) و خليل ربّاز (١٨٢٤-١٩٠٤) و احمد زيدان (١٨٣٢-١٩١٢) و ابراهيم العمر (١٨٦٤-١٩١٤) وغيرهم. تطورت هذه الاساليب الغنائية كلها واصبحت بقيادة الفنان المتمكن رشيد القندرجي بداية حقبة التحول واستلمها القبانجي في ذروة هذه الحقبة ويبدو لنا من خلال المعلومات التاريخية ان الوسط المقامي بأكمله الذي عاصر ظهور رشيد القندرجي قد اعترف له بسيادة عصره، و بأن خلاصة هذه الطرق قد وصلت تباعا و تبلورت في غناء رشيد القندرجي ووصلت الى ذروة كلاسيكيتها عنده. و يمكن القول ان القندرجي و من تبع طريقته من معاصريه ولاحقيه يشتركون في تحديدات اسس هذه الطريقة ذات المضمون الفكري الكلاسيكي وهي مادة موضوعاتهم ومصائر حياتهم التي نذروها لهذا الغناء التراثي (المقام العراقي) في حين انهم يختلفون بطبيعة الحال في درجات مستوياتهم الفنية والتقنية في الغناء
ان وصف رشيد القندرجي بمصطلح (صاحب طريقة قديمة جديدة) هو النعت الذي اراه مناسبا لوصف طريقتة الغنائية و هو ايضا يقترب من النعت الذي غلب على وصف المتخصصين و المهتمين بشؤون المقام العراقي و جماهيره في مضامين نقدهم او احاديثهم عن الطريقة الرشيدية و تأثيراتها. ان تأثيرات رشيد القندرجي ناتجة بواسطة حنكته في التركيز عند غنائه للمقامات وربط عناصر المقام في حركة ديناميكية متواصلة دون اسهاب يذكر. و قد نجح كثيرا في هذا الشأن وعبَّر عن ذلك اكثر النقاد بمفردة (الصياغة) أي صياغته لعلاقة المسارات اللحنية و حبكتها
بعض مزايا الطريقة القندرچيه
ان الكثير من مقامات رشيد القندرجي التي خلَّفها لنا مسجلة بصوته ليست مقامات غنية في نواحيها التجديدية بمقدار ما هي توضيح اصول غنائية مقامية تقليدية وتثبيتها تاريخيا كشكل غناسيقي يمكن الاعتماد على اسسها اللحنية كمسارات غنائية وصلت تباعا من السابقين الى اللاحقين. وبالتالي فقد كانت هذه المقامات على نحو ما نماذج غنائية تقليدية جبل عليها المغنون، لكنه صاغها باسلوب ابداعي شيق فقد تفوق رشيد على بقية اقرانه بصياغة القطع ووضعها كلا في محلها. اما اشهر مقاماته التي غنَّاها وسجلها فهي
مقام الابراهيمي (سلَّمه بيات) الذي استفاد منه القبانجي ونافسه فيه واشتهر به ايضا، كذلك كان مقام
البيات الرئيسي من المقامات الرائعة التي سجلها القندرجي بصوته، اضافة الى مقامات اخرى مثل
مقام السيكاه ومقامي العريبون او
مقام الرست الذي يغني فيه القصيدة الشهيرة ان شكوت الهوى
و في هذا الصدد يقول خبير المقام العراقي تركي الجراخ "ان القندرجي كان بارعا في غناء مقام
الابراهيمي ومقامي العريبون – لقد كان فنانا بارعا في صياغة الانغام و ذا قدرة بارعة في الحفظ. كان يعرف كل المقامات و لكنه كان يقرأ المقامات الصعبة فكان يبتعد عن المقامات الفرعية لانها تقلل من قيمته" يقصد ان المقامات الفرعية يمكن غناءها من قبل المطربين الصغار الجدد وليس من قبل مطربين كبار امثاله. و يقول المرحوم الشيخ جلال الحنفي "يعتبر رشيد القندرجي من الطبقة المتفوقة من مغني بغداد و قد اخذ عنه جماعة , منهم مكي الحاج صالح و اسماعيل خطاب عبادة و حمودي و احمد السراج و سعيد محمود البياتي و عبد القادر حسون و عبد الخالق صالح رحيم و سعيد دخان و غيرهم , و قد قرأ رشيد جملة مقامات في الاسطوانات و هي
السيكاه و التفليس (سلَّمه هزام) و
الكلكلي (سلَّمه مخالف) و الحليلاوي (سلَّمه يتنوع بين الهزام والرست الذي تستقر نهايات المقاطع الغنائية عليه) ا و الاوج (سلَّمه هزام) و
البيات و الصبا و المحمودي (سلَّمه بيات) و الحسيني الخ من المقامات المهمة"
و مما ذكر في كتاب اعلام المقام العراقي في القرن العشرين في شأن التحدث عن رشيد القندرجي من قبل بعض اصدقائه، فقد قال تركي الجراخ و هو خبير في المقامات العراقية و صديقا حميما لرشيد "كان رشيد يأتي كل يوم لزيارتي، يجلس هنا في هذا المحل و كان يدندن ببعض الانغام ثم يصمت عندما يجد الناس يحملقون به". ثم يقول عن تلمذة رشيد لاحمد زيدان "ان حكاية رشيد القندرجي مع احمد زيدان إبتدأت حين كان رشيد يعمل عاملا في احدى المقاهي التي اندثرت و هي مقهى القيصرية، و كان ينصت للأستاذ احمد زيدان الذي كان يحيي حفلات الجالغي البغدادي. و ذات يوم تغيَّب احمد زيدان عن موعده فحار الموسيقيون بمعالجة الموقف فطلبوا من رشيد ان يحل محله و بالفعل قرأ رشيد و اثار انتباه الموسيقيين ولكن عندما علم احمد زيدان مسك رشيد من رقبته و لكنه عندما علم بحسن صوته ودقة ادائه شجَّعه و قال له ستكون خليفتي في هذا الميدان الصعب فواصِل الطريق، و هكــــذا اصبح رشيد ملازما لاستاذه". ثم يسترسل تركي الجراخ ويقول "أذكر أنه قبل وفاته بأيام كنت قد قابلته في سوق الصدرية وكان يضع فوق كتفه معطفا سميكا وعندما سألته أجاب أن ألماً حادَّاً قد لازم ظهره منذ ليلة الأمس". وقال أيضا "لو لا تحديد ساعة تقديمه بالمقام في الاذاعة لما ذهب وعندما ودَّعْتهُ لم ألتقه بعد ذلك فقد دخل في بيته ولم يخرج منه إلا ميتا. لقد شيَّعته بغداد بحرقة فقد ترك فراغا واضحا لا من المقام حسب بل بحضوره الشخصي".
اما الحاج هاشم الرجب احد تلامذة رشيد فيقول عن بعض خصائصه "لقد تأثر رشيد باستاذه احمد زيدان و اخذ عنه الكثير، وبما ان صوت استاذه كان ضعيفا ولأن مقامات التحرير تحتاج الى قرار قوي، فكان احمد لا يتفنن بمقامات التحرير بل يركز جهوده على مقامات البدوة كالابراهيمي و المحمودي و الطاهر و قد برع في المقامات العالية". اما السيد عبد القادر البراك فيقول "تعرفت على رشيد القندرجي في سرداب جريدة العراق عام ١٩٤٢حيث كان يتردد لزيارة بعض اصـــدقائه من محرري الجريدة و كان يلبِّي دعواتهم لقراءة المقامات التي يودون الاستماع اليها منه".
الباحث صادق الازدي يقول "تعرفت على رشيد القندرجي في شهر مايس عام ١٩٤١ وهو الشهر الذي قامت في بدايتة الحرب بيننا و بين بريطانيا و قد اسهمتُ اثناء ايام تلك الحرب بتحرير جريدة يومية مسائية يصدرها المرحوم عبد الله حسن، و كانت الاعداد التي صدرت منها خلال مايس هي آخر ما صدر منها طوال مدة الحرب العالمية الثانية. و كان احد اصحاب مطبعة الرشيد التي تطبع النهار على ماكنتها من قراء المقام العراقي و هو المرحوم محمد سعيد احد اصدقاء رشيد القندرجي. و كان رشيد يزور المطبعة في معظم ايام الاسبوع و كان يرتدي الملابس العصرية و يضع السدارة على رأسه، و هو ممتلئ الجسم قوي البنية رغم كونه يتجاوز الخمسين من العمر. و عندما كان يجلس معي في غرفة ادارة المطبعة كان يسألني ما هي اخبار الحرب يا صادق؟ فكنت اروي له الانباء التي سمعتها عن طريق الاذاعات العربية. و كنت سعيد الحظ لأنني سهرت و أياه في بيت صديق له و لي، فانطلق يغني ثم ذهب بعد ذلك الى بيته الذي يعيش فيه وحيدا و هناك لفظ أنفاسه الاخيرة يوم ٨اذار ١٩٤٥"
و بالنسبة الى المرحوم باهر فائق السفير الدبلوسي و الخبير المقامي فيقول "صوته في البس (باص في الفرنسية) جهيري جميل كما يتبين ذلك من اسطوانته التي يغني فيها الرست مثلا و ما استعماله للزير (أي الصوت المفتعل به في الميانات) إلا لأن بُعُدْ صوته محدود في الالحان المرتفعة و اكثر المولعين بالمقام يقدرونه في لونيه المنخفض و المرتفع كما انه يلتزم التزاما كليَّا باصول المقام و قد سمعته في مختلف مقاهي بغداد و المجالس الخاصة، يعطي التحرير و الاوصال و الميانات و التسلوم حقَّها فلا ينتهي من إحداها إلا بعد أن يكون قد وفَّى حقَّها من التعبير النغمي فأشبعها من روحه وفاء للمشاعر التي لحِّنت من اجلها واستيعابها لمعنى الكلمه. تبرز شخصيه القندرجي في ابتعاده عن الابتذال و التكرار الممل و الميوعة باستيعاب الاصول و مراعاة المقام في بُعْديهِ النغمي و المحيطي فمكانة رشيد خير مثال لتلك الصفات "
و اخيرا يتحدث جلال الحنفي فيقول "كان رشيد سلس القيادة أليفا بسيطا لم اره متعنتا يوما ما إلا في موقف يتطلب منه الاعتراف بالاستاذ القبانجي او الالتقاء به تحت سقف واحد و اني بذلت جهدا كبيرا استمر زمنا غير قصير من اجل جمعهما في مكان واحد فلم افلح في ذلك و كان موقف القبانجي من هذه الناحـية لا يقل امتناعا عن موقف صاحبه. و في الثلاثينات كنت احمل معي آلة تصوير بدائية اجول بها على المغنين والمواسقة و قرَّاء المقام العراقي لألتقط لهم صورهم فكانت صورة رشيد القندرجي تتعرض عندي للفشل الذريع المتكرر و قد لاحقت رشيد القندرجي ملاحقة مستمرة و كنت آخذه الى مسجد حسب الله الذي آل منه الجزء المطل على الشارع بعد ان شقَّ شارع الخلفاء و في المسجد كان رشيد يعرض لنا نماذج من تسبيحات التمجيدالذي هو ضرب من الغناء الصوفي الذي كاد ينقرض و يندثر، و في مسجد حسب الله تم التقاط صورا كثيرة لغير واحد من رجال المقام".
ثم يختتم محمد القبانجي هذه الاحاديث بحديث عن سر الخلاف الذي كان بينه و بين رشيد القندرجي: "حين سمعت المرحوم رشيد القندرجي لاول مرة يغني في مقهى علوان العيشة التي كانت ملتقى الفنانين في الثلاثينات لم اكن مشهورا انذاك لكنني اخذت عليه تحفظه في الغناء، فالذي تسمعه اليوم منه تجده يكرره غدا دون تغيير او تبديل في الانغام شأنه في ذلك شأن المغنين الكلاسيكيين الذين كانوا يعتبرون المقام قالبا معينا لا يمكن تغييره، مع ذلك كان له مؤيدون و الكثيرون المعجبون و ما زالو يذكرونه حتى الآن، و من هنا نشأ الخلاف بيننا. انا ادعو للتطوير شريطة عدم خروج المغني عن الجوهر و هو يلتزم الكلاسيكية، و اليوم بعد رحيل القندرجي اقول ان خلافنا لم يكن شخصيا بل كان فنيا و اذكر انني عندما غنيت مقام حجاز كاركرد و النهاوند و سمعني رشيد لم يكن يعرف النهاوند او على علم به و بدأ القندرجي يشيع بين الناس على ان القبانجي بدأ يغني حسب مزاجه مقامات ليس لها وجود و لم نسمعها من اساتذتنا".
هناك مصدران مهمان لمعرفة زمن و مكان ولادة القندرجي. الاول لجلال الحنفي في كتابه المغنون البغداديون المنشور مضمونه في الثلاثينات والمطـبوع في كتاب عام ١٩٦٤، والثاني للحاج هاشم محمد الرجب في كتابه المقام العراقي الصادرعام ١٩٦١. وكلا المصدرين مهمان فعلا، ويحتاج الامر الى البحث عن ايهما ادق في ذكر المعلومة. فالاول يذكر ان رشيد قد ولد في بغداد محلة سبع ابكار سنة ١٣١٢هـ في حين ان المصدر الثــاني يذكر انه ولد في بغداد محلة العوينة سنة ١٣٠٤هـ وبما ان المصادر الاخرى بكثرتها متفقة تقريبا على ان رشيد ولد عام ١٨٨٦م فهذا يعني ان ولادة رشيد بالتقويم الهجري على ما جاء في كتاب الرجب. اما بالنسبة لمكان المحلة التي ولد فيها فيحتاج الامر الى تأكيد الاصح منهما. ولد رشيد بن حبيب بن حسن القندرجي من ابوين فقيرين، وبسبب الفقر لم يدخل الى المدرسة ليتعلم فبقي اميَّاً. وانصرف منذ صغره الى الاعمال الحرة، فتعلَّم صناعة الاحذية في احد المعامل البغدادية وسار لقبه من هذه المهنة. نشأ وهو يحب الغناء حتى جالس كبار المغنين يسمع منهم، فتُلمذَ على يد المطرب الكبير احمد زيدان مؤسس الطريقة الزيدانية، ولازمه حتى وفاته واخذ عنه الغناء حتى قال له يوما "انت خليفتي من بعدي" فكان له ذلك. لقد وهبت له الطبيعة نفْساً طروبا تميل الى السرور والمرح غير انه اصيب في بادىء نشأته بما عكَّر صفاء تلك النفس، اذ كان يرى امامه امَّاً حزينة اثقلها الدهر بنكباته فتستسلم يوميا للبكاء امام الفاقة والعوز اللذين احاطا بهما. وكان رشيد طيب القلب شديد الحب لها وبذلك حرم من سعادة الطفولة. ومع ذلك فقد قضى الشطر الاول من حياته وهو ينتقي درر الانغام، ونتيجة لظروفه لم يفكر بالزواج وبقي اعزبا طيلة حياته. كان رشيد القندرجي سريع الطرب لا يقل طربه اثناء حضوره على المسرح عن طرب السامع. وهو اول مغن عراقي بعد استاذه احمد زيدان تنبه الى واجبات الايماء وحركات الغناء بالاشارات. وعلى هذا بقي يرفل في ثياب الانس والفرح ليلهِ كنهارهِ ونهارهِ كليلهِ يشنف آذان السامعين بلآليء غنائه الى ان دعته الحكومة ليكون خبيرا فنيا في دار الاذاعة اللاسلكية العراقية فقام بواجبه الفني خير قيام حتى وافاه الاجل في الثامن من اذار عام ١٩٤٥الموافق ٨ صفر ١٣٦٢هـ.
Thank you for saving this important part of humanity's heritage!
ReplyDelete